من المؤكَّد أنَّ العالم تجاوز مرحلة القطبية الأميركية الواحدة منذ عقد تقريبًا. لكنه مازال يعيش مخاض إعادة التشكل والتكوين وفق معايير وموازين قوى ومصالح جديدة. والعالم القائم يسير من أقصاه إلى أقصاه في ركب الرأسمالية ( الاقتصاد الصيني يعمل وفق آلية ومنظومة الاقتصاد الرأسمالي) مع استثناءات غير مرئية في اللحظة الراهنة. غير أن أقطاب الرأسمالية ليسوا لونا واحدًا، ومصالحهم وحساباتهم تختلف من قطب لآخر. ولهذا فإنَّ الصراع سيبقى محتدمًا تارة، وباردًا تارة أخرى، لكن الخط البياني لعملية التحول في تركيبة العالم وأولوياته، ومواقع أقطابه تسير بخط صاعد ولولبي. مما يؤثر على قراءة بعض المراقبين للوحة العالمية، ويوقعهم في فرضية إنَّ العالم ما زال يراوح في ذات المكان.
وعطفًا على ذلك، يخطىء من يعتقد أنَّ الولايات المتحدة بغياب تفردها في المشهد السياسي العالمي، تكون اضمحلت وتلاشت قدرتها وقوتها ونفوذها الدولي. هكذا استنتاج فيه قصور، وتجاهل لقراءة عملية التآكل والتراجع الأميركية، وعدم القدرة على رؤية صراع الأقطاب والتنافس على إعادة تقاسم النفوذ في قارات وأقاليم العالم.
لو أخذنا ما يجري على الأرض السورية العربية نلاحظ إن الصراع بين القطبين الابرزين الأميركي والروسي، يشهد في اللحظة الراهنة تصعيدًا واضحًا، مع إنَّ الرئيس ترامب أعلن أنَّه لا يريد مواصلة وجود قواته على الأرض السورية. لكنَّه لم يعلن انسحابه من معادلة الصراع، والحصول على جزء من الكعكة السورية. ولهذا هدد وتوعد ساكن البيت الأبيض روسيا الاتحادية ورئيسها بوتين برد قاس في حال استخدم مضاداته من صواريخ إس 400 أو إس 600 أو غيرها من الأسلحة، بعد إنَّ كان الرئيس الروسي أزبد وتوعد الولايات المتحدة برد موجع. وتلازم مع التهديدات المتبادلة لجوء كل قطب لتجيش مناصريه وحلفائه، فأميركا تقوم بالتنسيق مع دول أوروبا الغربية وخاصة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وبعض الدول العربية، كما أنَّ روسيا تقوم بتوسيع دائرة حلفائها، بحيث لا تقتصر على إيران وتركيا، التي لا يمكن الركون للتحالف معها، خاصة وأنَّ أقدامها موزعة بين حلف الناتو، وبين العلاقة مع روسيا الاتحادية، ومع ذلك تسعى روسيا إنَّ لم تستطع كسب تركيا كجزء من المعركة إلى جانبها، على الأقل تعمل على تحييدها، ولا تكون جزءًا من معسكر خصومها وأعدائها، وتمنع استخدام أجوائها وأراضيها للمرور لضرب سوريا أو روسيا في حال انحرفت بوصلة السياسة الواقعية بين القطبين، وفي السياق، تعمل على كسب الصين لجانبها في معركة المواجهة، ولو بالصوت.
وما يجري من تصعيد في آلة الإعلام الغربية الرأسمالية والعربية على النظام السوري، واتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية في الفوطة، يعتبر الذريعة، التي سينفذ منها الغرب عموما وأميركا خصوصًا لتوجه ضربة قوية لمؤسسات النظام السوري، ويستهدف من خلال ذلك منظومة الدفاع الروسية، وقد تطال قواعدها وأسطولها في البحر الأبيض، ومن خلاله أيضًا استهداف المواقع الافتراضية للوجود الإيراني، وهي بشكل غير مباشر رسالة لروسيا بوتين، إن الموافقة الغربية والإسرائيلية على بقاء نظام بشار الأسد، لا تعني التسليم المطلق بالدور الروسي في سوريا، الأمر الذي يفرض على روسيا الاتحادية تدوير الزوايا في سياساتها، وفتح القوس للتوافق على طبيعة مركبات النظام السوري بما يسمح لوكلائها من المعارضة، بأن يكونوا ضمن تركيبة النظام، والعمل على إبعاد إيران وحزب الله من الساحة السورية، وعدم التدخل في الشؤون اللبنانية، وأخذ ضمانات بعدم السماح لأية قوة سورية أو غيرها بتهديد أمن إسرائيل، والابتعاد عن القضية الفلسطينية، وهو ما يعني الحد من الدور الروسي التقريري في المسألة السورية.
الرسائل المرسلة لروسيا ليست غائبة عن صانع القرار الروسي، ولكن هل يقبل بها؟ وما هي الحدود الممكنة للمناورة في هذا الشأن؟ وما أثر ذلك على الدور الروسي في خارطة العلاقات الدولية؟ كل الأسئلة ستجد انعكاسا لها على الأرض السورية في عملية عض الأصابع، والمواجهة الصاروخية المحتملة في قادم الأيام بين القطبين ومن يقف معهما.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها