بعد تورط إدارة بايدن السابقة بالشراكة مع إسرائيل في تنفيذ جرائم الإبادة والاقتلاع العرقي بحق شعبنا، تشهد اليوم الولايات المتحدة انقلابًا مؤسساتيًا سيكون أكثر تورطًا يقوده دونالد ترمب بمساعدة الملياردير إيلون ماسك، الذي أصبح فعليًا الرجل الثاني في الإدارة الأميركية. هذا الانقلاب لا يقتصر على إعادة تشكيل البيت الأبيض، بل يمتد إلى السيطرة على الوزارات الحيوية مثل الخزانة ووكالة التنمية USAID ووكالة المخابرات المركزية وإدارة الخدمات العامة، مما يمنح ترمب نفوذًا غير مسبوق يمكنه من إعادة هيكلة المؤسسات بما يخدم أجندته اليمينية الشعبوية. هذا التحول ينعكس بشكل مباشر على الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بقضيتنا الوطنية، حيث يدعم سياسات التهجير القسري، ويوفر الغطاء السياسي والمالي لتوسيع الاستيطان والضم الإسرائيلي، ويعمل على تقويض القوانين الدولية التي تعيق تنفيذ هذه السياسات.
إن ما يقوم به ترمب وماسك ليس مجرد تغيير إداري، بل انقلاب غير تقليدي يستهدف فرض أجندات التطرف اليميني الفاشي، حيث أصبح ماسك، الذي أدى التحية النازية يوم التنصيب، لاعبًا رئيسيًا في إعادة تشكيل الدولة العميقة وفق رؤية ترمب. عمليات التطهير السياسي داخل المؤسسات لم تستهدف فقط المعارضين، بل كانت مدفوعة أيضًا بأجندات صهيونية وإنجيلية متطرفة تؤمن "بالتعليمات الإلهية" و"الحق التوراتي". هذا يمكّن الإدارة الجديدة من إعادة توجيه الأموال الفيدرالية لدعم مشاريع مرتبطة بإسرائيل، خاصة في التوسع الاستيطاني والضم، وتمويل الشركات الرأسمالية الكبرى كبديل عن الحكومات، بما يعزز سيطرة الفكر الرأسمالي النيوليبرالي المتوحش عالميًا. كما تم تفريغ المؤسسات الأميركية من أي مقاومة لسياسات ترمب الخارجية، لا سيما تجاه الشرق الأوسط، ومنح إسرائيل غطاءً قانونيًا وسياسيًا لممارسات الضم والتهجير القسري والإرهاب الاقتصادي والتكنولوجي الرقمي.
إلا أنه لا يمكن فهم هذا التحول دون الإشارة إلى الدور الذي تلعبه المليارديرة الصهيونية ميريام أدلسون، التي كانت من أكبر ممولي حملتي ترمب الانتخابية، وشريكة رئيسية في الترويج لسياسات إسرائيل التوسعية. دعمها لم يكن مجرد تمويل انتخابي، بل استثمارًا استراتيجيًا لتحقيق أهداف مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، وتجفيف مصادر تمويل الفلسطينيين دوليًا، والآن فرض العقوبات على الأونروا ومحكمة الجنايات الدولية و تمكين إسرائيل من الاستيلاء الكامل على الضفة الغربية وفرض مخططات التهجير من غزة ومخيمات اللاجئين بعد عدوان الإبادة الذي لم ينتهِ بعد إلا إذا تم التمكن من إيجاد "السلطات المتجددة" وفق المفهوم الأميركي في غزة.
كما لعبت التعيينات السياسية في إدارة ترمب دورًا حاسمًا في تكريس هذه التوجهات إضافة إلى تكريس سياسة الانعزال والانسحاب من المنظمات والاتفاقيات الدولية. فقد ضمت الإدارة شخصيات مثل مايك هاجابي، الذي يروج لفكرة أن فلسطين "أرض يهودية توراتية"، وريتشارد جرينيل، الذي يدفع لفرض سياسات أميركية أكثر تشددًا في دعم إسرائيل، ونيكي هايلي، التي قادت حملات ضد أي قرارات تدين إسرائيل دوليًا، إضافةً لوزراء الدفاع والخارجية وإلى سفراء ومسؤولين آخرين يعملون على تنفيذ هذه السياسات، كان آخرها وقاحة أورتاغوس مندوبة ترمب أمس بتدخلها بالشأن الداخلي خلال زيارتها للبنان، ومحاولة فرض اشتراطاتها.
ومع تصاعد سيطرة أدوات ترمب على المؤسسات الأميركية، أصبح الحديث عن تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية ليس مجرد تهديد عابر، بل خطة قيد التنفيذ تشمل فرض حصار اقتصادي وعسكري مطلق لدفع الشعب الفلسطيني إلى البحث عن "خيار الهروب"، وتسهيل تهجير سكان القطاع ومخيمات اللاجئين إلى سيناء تحت غطاء "حلول إنسانية"، أو إلى مناطق قرب أريحا كما أشارت بعض مصادر إعلامية إسرائيلية أمس، أو شمال الحدود الأردنية العراقية، أو حتى جنوب سوريا "الجديدة بعد الغزوة الإسلامية" إذا نجحت ضغوطات الإدارة الأميركية. كما يجري الضغط على الدول العربية بوسائل مختلفة لقبول هذا التهجير كجزء من صفقة أكبر للتطبيع مع إسرائيل، مقابل حوافز ووعود اقتصادية وأمنية، أو من خلال فرض وقائع جديدة عبر ما يسمى بـ"السلطات المتجددة" كما يحدث في سوريا ولبنان، بهدف تسريع تنفيذ رؤية "الشرق الأوسط الجديد" التي تخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية على حساب شعوب المنطقة.
السيطرة المطلقة لترمب وماسك ودائرتهم تعني أن الولايات المتحدة لن تمارس أي ضغوط على إسرائيل فيما يتعلق بحقوق شعبنا الفلسطيني، حتى تلك التي كانت ضمن الوعود الأميركية الزائفة بشأن "حل الدولتين" و"دولة الجبنة السويسرية " كما وصفها الرئيس أبو مازن كما جاءت في صفقة القرن ذات المعازل الجغرافية دون القدس. على العكس، فإن كل السياسات الحالية مصممة لتمكين إسرائيل من تنفيذ أجنداتها التوسعية الاستعمارية، بدعم أميركي كامل سياسيًا وعسكريًا وماليًا، في سياق أوسع من سياسات التطهير العرقي والاستحواذ على مقدرات المنطقة من طاقة وغاز وممرات تجارية وبحرية.
هذا التحول يتم تنفيذه بهدوء ومنهجية متسارعة، دون الحاجة إلى انقلاب عسكري أو إعلان حالة الطوارئ، مما يجعل أي مقاومة داخلية له شبه مستحيلة أو صعبة بالحد الأدنى، حيث تم تحييد أدوات الرقابة القانونية والمؤسسية. كما أن تأثيره يتجاوز الولايات المتحدة إلى سياسات أوسع تشمل توجيه الدعم المالي والسياسي وفقًا لأهداف ترمب حتى في أوروبا التي يستهدفها أيضًا، مما يعزز محاولات استمرار فرض النظام العالمي أحادي القطب بثوب جديد قائم على منطق الهيمنة الاقتصادية والاستعمارية المطلقة.
ما يجري في واشنطن ليس مجرد أزمة سياسية أو صراع داخلي ولا هو كما ذهب البعض بتفسيره وفق تشخيصات سيكولوجية لشخصية ترمب المريضة أو اعتماده على مبدأ المطالبة بالكثير ليحصل على القليل. بل إعادة تشكيل جذرية لدور أميركا في العالم، بحيث تصبح شريكًا رئيسيًا في مشاريع التفوق العنصري الأبيض والتطهير العرقي والاستيطان الاستعماري، تحت ستار "الصفقات العقارية" التي يتحدث عنها ترامب، لكنها في جوهرها تعكس الفكر النيوليبرالي المتوحش ومحاولة هزيمة القوى الصاعدة والتقدمية في العالم.
إذا لم يكن هناك تحرك دولي وعربي وفلسطيني جاد لمواجهة هذه السياسات وفق متطلبات واستحقاقات واضحة ومعروفة للقاصي والداني، فإن التطهير العرقي ومحاولات تهديد السلم والأمن الدوليين سيصبحان واقعًا حتميًا مخيفًا. ومع ذلك، فإن مشاريع ترمب وماسك تحمل باعتقادي في طياتها بذور فشلها، وتهدد الاستقرار الداخلي الأميركي ذاته، مما قد يؤدي إلى تفكك داخلي وصراعات غير متوقعة في المستقبل، وهذا ما لا يرحب به شعبنا الفلسطيني بالطبع ولا كل شعوب الأرض قاطبة حتى الشعب الأميركي نفسه.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها