في خطوة غير مفاجئة للمراقبين العالميين، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرسومًا رئاسيًا يوم الخميس 6 شباط/فبراير الحالي بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لإصدارها مذكرتي اعتقال ضد بنيامين نتنياهو، رئيس الائتلاف الإسرائيلي الحاكم ووزير حربه السابق، يوآف غالانت في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تشمل حظر الممتلكات والأصول وتعليق دخول مسؤوليها إلى أميركا، ومنع دخول موظفي الجنائية الدولية وأفراد أسرهم المباشرين المشمولين بالعقوبات إلى أميركا. لأن دخولهم يضر بمصالح البلاد، جهود الجنائية الدولية للاعتقال أو الاحتجاز أو المقاضاة تمثل تهديدًا استثنائيًا للأمن القومي الأميركي، وارفق ذلك بفرض حالة طوارئ وطنية للتعامل مع التهديد الذي تمثله جهود المحكمة الجنائية، وتشمل حظر تبرعات معينة لموظفي الجنائية الدولية، الذين فرضت عليهم العقوبات.
ومن حيث المبدأ فرض العقوبات على قضاة الجنائية الدولية يعتبر قرصنة واضحة على القانون الدولي، وتهديدًا للعدالة الدولية عمومًا ومعاهدة روما خصوصًا. لا سيما وأن المحكمة الجنائية أمست ضرورة عالمية لصيانة العدالة، وكف يد الأنظمة الاستعمارية والديكتاتورية الموغلة في ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية ضد شعوبها، أو الشعوب الأخرى، كما فعلت دولة الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع العالم أجمع.

ولم يأتِ الإجراء الرئاسي الأميركي من فراغ، ولا هو وليد اليوم، وإنما هو يعكس نهجًا قانونيًا وسياسيًا عنوانه أميركي، أولاً اعتبار المسؤولين والضباط والجنود الأميركيين والإسرائيليين ومن يدور في فلكهم خارج صلاحيات قضاة الجنائية الدولية؛ ثانيًا ممارسة البلطجة والتغول على القانون الدولي والمحاكم الدولية منها: العدل والجنائية الدولية؛ ثالثًا تفترض كل من الولايات المتحدة وإسرائيل أن المحاكم الدولية أنشأت من أجلها، ولحمايتها، وليس لمحاسبتها، أو ملاحقتها أسوة بقادة ومسؤولي وضباط وجنود الدول الأخرى، وهذا ما كان صرح به نتنياهو وأركان حكومته في أول ردة فعل على إصدار مذكرتي الاعتقال ضده وضد وزير حربه السابق غالانت؛ رابعًا تبنى مجلس النواب الأميركي مشروع قرار بفرض عقوبات ضد محكمة الجنائية الدولية في 5 حزيران/يونيو 2024 لنفس الغاية والهدف، الذي ورد في المرسوم الرئاسي الأميركي.
وردًا على ذلك، نددت رئيسة المحكمة الجنائية الدولية، توموكو أكاديه أول أمس الجمعة 7/2 الحالي هذا القرار، ورأت فيه "هجومًا خطيرًا" على النظام العالمي، وأضافت: إن "مثل هكذا تهديدات وتدابير قسرية تشكل هجمات خطيرة على الدول الأطراف في المحكمة، وعلى النظام العالمي القائم على سيادة القانون، وعلى ملايين الضحايا". وأكدت أن المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة قضائية تؤدي وظائف تتماشى مع مصالح المجتمع الدولي من خلال إنفاذ وتعزيز قواعد القانون الدولي المعترف بها عالميًا، بما في ذلك قانون النزاعات المسلحة وقانون حقوق الإنسان، ومع استمرار الفظائع في ابتلاء العالم بالتأثير على حياة الملايين من الأطفال والنساء والرجال الأبرياء". وأشارت إلى أن المحكمة "أصبحت لا غنى عنها، فهي تمثل الإرث الأكثر أهمية للمعاناة الهائلة التي ألحقتها الحروب العالمية، والمحرقة، والإبادة الجماعية، والعنف والاضطهاد بالمسنين". وختمت "إن المحكمة تقف بحزم إلى جانب موظفيها، وتتعهد بمواصلة توفير العدالة والأمل لملايين الضحايا الأبرياء للفظائع في جميع أنحاء العالم، وفي جميع المواقف المعروضة عليها، في مصلحة الكرامة الإنسانية وحدها".

وكانت أصدرت 79 دولة من الدول الأطراف الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بيانًا مشتركًا، أكدت فيه دعمها المستمر والثابت لاستقلال المحكمة ونزاهتها وحيادها. وشدد البيان على أن المحكمة تعمل كركيزة أساسية في نظام العدالة الدولية من خلال ضمان المساءلة عن أخطر الجرائم الدولية وتحقيق العدالة للضحايا. وأشار البيان، إلى أن المحكمة تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، لافتًا إلى أنه "تم فرض تدابير عقابية ضد المحكمة ومسؤوليها وموظفيها، وكذلك ضد المتعاونين معها، كرد فعل على قيام المحكمة بتنفيذ ولايتها وفقًا لنظام روما الأساسي". وأكد البيان أن "هذه التدابير تزيد من خطر الإفلات من العقاب على أخطر الجرائم، وتهدد بتقويض سيادة القانون الدولي، وهو أمر ضروري لتعزيز النظام والأمن العالميين. علاوة على ذلك، قد تعرض العقوبات سرية المعلومات الحساسة وسلامة الأطراف المعنية للخطر، بما في ذلك الضحايا والشهود ومسؤولي المحكمة، وكثير منهم من مواطنينا".
أن مجمل الردود الدولية بما في ذلك داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها. لا سيما وأن مجلس الشيوخ رفض التصديق سابقًا على مشروع قانون الكونغرس المذكور آنفًا، تشكل خط دفاع هام وأساسي للرد على مرسوم الرئيس الأميركي المنفلت من كل عقال قانوني دولي، وحتى من القوانين والدستور الأميركي ذاته، الذي أكد على العدالة والديمقراطية، وهذا يستدعي من النخب والقادة الديمقراطيين الحقيقيين من الحزبين التصدي لمرسوم الرئيس ترمب، لأنه جائر ومعادي للقانون الدولي ونظام روما الأساسي.