الظواهر بتجلياتها السياسية والاجتماعية والطبيعية تفرز وتنتج ظواهر جديدة في نطاق سيرورتها التاريخية وصيرورتها التفاعلية مع مجموعة العوامل والشروط المحيطة بهذه الظاهرة او تلك. غير ان هذا المبدأ يستوجب قراءة الظواهر دون مغالاة في سحب المبدأ تعسفيا عليها جميعها، وإعطاء حيز من التدقيق في طبيعة وتطور كل ظاهرة بما يمكن من القراءة العلمية لتجلياتها وآفاقها على الصعد المختلفة.
المدخل النظري المقتضب، يهدف الى لفت انتباه عدد من الخبراء في الشأن الاسرائيلي الفلسطينيين، إلى تعميم مفاهيم خاطئة جاد بها اساتذة علوم سياسية في المؤسسة الاكاديمية الاسرائيلية (الصهيونية ) امثال البرفيسور أورون يفتاحئيل، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، ومنها مفهوم “الضم المعاكس” اي ضم دولة إسرائيل ل “المجتمع الاستيطاني”! ومنهم الاساتذة أنطوان شلحت ومهند مصطفى وغيرهما.
مما لاشك فيه، ان الجهد، الذي يبذله الكتاب الفلسطينيون، جهد مهم لتسليط الضوء على الفكر السياسي الاسرائيلي في تحولاته المتواصلة، ولكن القراءة الموضوعية للعلاقة التبادلية بين دولة إسرائيل على حدود النكبة عام 1948، ركيزة المشروع الصهيوني، وما يطلق عليه “مجتمع المستوطنين” في الاراضي المحتلة عام 1967، تشير الى تعميم لمفاهيم تشاء المؤسسة الاسرائيلية الاستيطانية عبر مكوناتها السياسية والامنية والاكاديمية ترويجها في الاوساط الفلسطينية والعربية والاممية، للايحاء وكأن هناك فصلا ميكانيكيا بين مراحل تطور المشروع الصهيوني، وبين مكوناته في المحطات التاريخية، التي مر بها. حتى تم الايحاء وكأن العشرين سنة الاولى من الاستيطان في الاراضي المحتلة عام 67 كان الناظم والمسوق له عوامل صهيونية مختلفة عن العشرين سنة الاخيرة، دون الانتباه الى ان المشروع الام (الصهيوني) من خلال ميكانيزماته والعوامل المحيطة به فلسطينيا وعربيا واقليميا ودوليا يطور في ادواته، وتتعمق شراسته وطريقة التعبير عن نفسه ارتباطا بما تقدم، ونتيجة هزال وضعف عوامل المقاومة الفلسطينية والعربية، وتفكك الارادة الدولية، وخضوعها في زمن العولمة الاميركية المتوحشة الى سطوة اباطرة المال للشركات فوق القومية، التي يلعب فيها اباطرة المال اليهود الصهاينة دورا مقررا. وبالتالي الفرق بين منظومة المسيانية الدينية لحركة “غوش إيمونيم “وبين منظومة “تدفيع الثمن” ورفع شعار “ارض إسرائيل” للسيطرة على الضفة الفلسطينية، ورفض خيار السلام القائم على حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، ليس سوى فرق شكلي، لان المسار التصاعدي او الخط البياني للمشروع الصهيوني الاسرائيلي على الارض الفلسطينية يحتاج في كل مرحلة لانتاج ادواته العاكسة لفحوى وجشع المشروع الكولونيالي، الذي لم يكتف بما صادره واحتله عام النكبة، ويسعى جاهدا في ضوء معطيات جديدة ومهيئة له، في استكمال المشروع على ارض فلسطين التاريخية كلها، وان كان هناك استثناء، فيمكن ان يكون في حدود قطاع غزة مع تعايش مع الكانتونات الفلسطينية المنتشرة في ارجاء الضفة، إن لم يتمكن القائمون على المشروع الاستيطالني الاحلالي والاجلائي الصهيوني من تحقيق هدف الترانسفير الكلي للفلسطينيين.
في ضوء القراءة السريعة، فإن المنطق العقلي الجدلي المستند الى المنهج التاريخي في دراسة الظواهر التاريخية، ومن خلال المقاربة الموضوعية بين إسرائيل كظاهرة استيطانية (سياسية اجتماعية اقتصادية وثقافية) والمنطق، فإن الاستخلاص العلمي يشير إلى ان الدولة الاسرائيلية، ركيزة المشروع الصهيوني، تقوم بدور المنتج للاستيطان، وتمدده وتوسعه، وتغذيه بكل الاحتياجات المالية والحماية الامنية ورفده بالمنشآت الاقتصادية والادارية والتعليمية ووضع القانون الاسرائيلي في خدمته. وبالتالي الحديث عن الفصل الميكانيكي بين دولة إسرائيل والاستيطان، وكأنه مجتمع آخر بات فوق الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والاكاديمية، ليس سوى استنتاج خاطىء، ويجافي الحقيقة العلمية والسياسية. وتمرير المفهوم الخاطىء يسعى لتضليل القيادات السياسية العالمية والعربية والفلسطينية، لانه يحاول ان يعفي الحكومة الاسرائيلية من مسؤولياتها السياسية والامنية والقانونية تجاه الفلسطينيين، لا سيما وأن المستوطنين يبدون وكأنهم مجتمع “مستقل” عن الدولة، وهي (إسرائيل) لا تملك التقرير بشأنه، ولا تستطيع فرض إملاءاتها عليه!؟
الاستيطان في الاراضي المحتلة عام 1967، ليس سوى مرحلة نوعية جديدة في مسيرة المشروع الصهيوني الام، الذي بدأ مع نهايات القرن التاسع عشر. ولو عاد الباحثون الفلسطينيون لسياق تطور المشروع الصهيوني في محطاته التاريخية لما وصلوا للاستنتاج القائل بـ«الضم المعاكس»، وكان قالوا ان الاستيطان جزء اصيل من المجتمع الاسرائيلي، والمجتمع الاسرائيلي كله يساهم عن سابق تصميم وإصرار على توسع عمليات المصادرة والتهويد وبالتالي توسيع نطاق المستوطنات الاسرائيلية على حساب مصالح ابناء الشعب الفلسطيني، وما يجري الآن في النقب تحت ما يسمى مشروع «برافر»، ليس سوى مواصلة المشروع الصهيوني في داخل الداخل، لاستكمال مصادرة الاراضي التي تركتها الدولة الاسرائيلية خلال الاعوام الستين الماضية لحين توفر الشروط الذاتية والموضوعية الاسرائيلية. وهو ما يعني توسيع نطاق المشروع ذاته.
واما الحديث عن الامتيازات التي يحصل عليها قطعان المستوطنين في الاراضي المحتلة عام 67 وليست سوى الفاتورة، التي تدفعها الدولة والمجتمع الاسرائيلي لتشجيع اولئك القطعان على التخندق في المستوطنات، التي يقيمون بها. ومن يعود للاعتراف بالاكاديمية في ارئيل العام الماضي عشية الانتخابات الاسرائيلية، وانطلاق حملات العديد من رؤساء الكتل الصهيونية من المستوطنات، إلا عامل بسيط يؤكد المؤكد. وهي ايضا لتحفيز سكان المدن الاسرائيلية المكتظة بالسكان كتل ابيب وحيفا وغيرها للتوجه للمستوطنات والاقامة بها، والهرب من غلاء المعيشة والضرائب العالية، وفي ذات الوقت توسيع نطاق المشروع الصهيوني.
إذا مفهوم «الضم المعاكس» ليس صحيحا، ويتنافى مع الواقع وطبيعة المشروع الصهيوني التوسعي. المفهوم الادق، «التمدد الطبيعي للمشروع الصهيوني» في الارض الفلسطينية المحتلة كلها، ودخوله مرحلة نوعية في مسار تنفيذ اهدافه.
وسيلحظ المستخدمون لمفهوم «الضم المعاكس» مع تغير المعطيات وشروط الكفاح الفلسطينية والعربية والاممية، وارتقائها لمساقات جديدة واكثر قوة وفعالية، ان القائمين على المشروع الصهيوني سيغيرون تكتيكهم، وسينتهجون سياسات واليات عمل مختلفة عما هو عليه الحال راهنا.
الموضوع يحتاج الى تعميق، ولكن في هذه العجالة، فإن ما ورد يكفي لتسليط الضوء على الخطأ المستخدم
القراءة المعكوسة بين إسرائيل والاستيطان/ بقلم عادل عبد الرحمن
17-07-2013
مشاهدة: 2409
عادل عبد الرحمن
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها