الصراعات السياسية الناتجة عن الاستعمار بمختلف مسمياته ومستوياته القديمة والجديدة، وخلفياته وفرضياته تبقى أسيرة أحد خيارين لا ثالث لهما، إما السلام الذي يقوم على احترام إرادة وكفاح الشعب الواقع تحت نير الاستعمار، ومنحه الاستقلال السياسي والاقتصادي الناجز، وإما ديمومة الصراع والعنف والحرب، لأن كل الحلول الترقيعية، والالتفافية على إرادة الشعوب المكافحة لا تساهم في الخروج من نفق الصراع التناحري بين المستَعمر والمستعمِر، لا بل تفاقم نيران الصراع، وتزيده احتدامًا واشتعالاً مهما طال أمد وزمن الصراع.

والجزم أعلاه في التأكيد على الخيارين الاجباريين للصراع، لا ينفي ولا يسقط ولوج دوامة المساومة السياسية، ولكن المساومة مطلق مساومة لا تسقط حق الشعب المقهور ومستلب الإرادة من قبل الدولة الاستعمارية في الاستقلال على أرض دولته، وضمان حريته وسيادته على ترابه الوطني. وهنا فرق عميق بين المساومة السياسية وبين الحلول الترقيعية والالتفافية التآمرية، التي تستهدف بقاء بسطار الاستعمار مفروضاً على الشعب المضطهد بذرائع وحجج واهية.

ولو توقفنا أمام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي مضى عليه حتى الآن 74 عامًا بعد نكبة العام 1948، وما يزيد على القرن منذ وعد بلفور عام 1917، واتساع وازدياد الهجرات الصهيونية لفلسطين من مطلع القرن العشرين، وحتى من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، التي تجسدت ببناء أول مستعمرة صهيونية على أرض قرية الخالصة 1882، سنجد أن الصراع لم يتوقف يومًا، ولن يتوقف ثانية واحدة إلا بإقامة السلام، وتحرر الشعب الفلسطيني من ربقة الاستعمار الإجلائي الإحلالي الصهيوني وفق قرارات الشرعية الدولية.

ومن يعتقد من أقطاب ونخب الحركة الصهيونية بإمكانية مواصلة سياسة القضم التدريجي للأرض الفلسطينية العربية، ونفي الحق الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعودة وتقرير المصير يكون ساذجًا، ومغفلاً ولا يفقه ألف باء السياسة، وأياً كانت العوامل الموضوعية مجحفة وقاسية ومرة بمستوياتها العربية والإقليمية والدولية، فإنها لن تفت في عضد الشعب وقيادة منظمة التحرير، ولن تثني الحركة الوطنية عن بلوغ أهدافها وثوابتها الوطنية بمعايير المساومة التاريخية المطروحة، رغم أن فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة حتى أم الرشراش، وعلى مساحة 27009 كيلومترات مربعة، هي أرض ووطن الشعب الفلسطيني دون سواه من بني الأرض.

لكن انطلاقاً من إعلاء القيادة الفلسطينية راية السلام، وحقنها للدماء قبلت الانخراط في التسوية التاريخية وفق قرارات الشرعية الدولية. بيد أن قادة إسرائيل الدولة المارقة والخارجة على القانون رفضوا، وما زالوا يديرون ظهورهم لخيار السلام، لا بل كلما تقدم الفلسطينيون خطوة جديدة نحو السلام، كلما تراجع الصهاينة الإسرائيليون خطوات جديدة، وارتدوا إلى هدفهم الإستراتيجي الذي عكسه شعارهم الأهم والأخطر ليس لأنه مزور، إنما لأنه متناقض مع الحقائق التاريخية والجغرافية والحضارية، والقائل "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، ولأنهم يرتكزون على دعم مطلق من قبل دول الغرب الرأسمالي عمومًا والولايات المتحدة الأميركية خصوصًا، الأمر الذي أطلق يدهم في استباحة الدم والمصالح والحقوق الوطنية الفلسطينية في ظل تهافت وتخلي غالبية أهل النظام الرسمي العربي عن مبادرة السلام العربية ومحدداتها الأربع وفق أولوياتها المعروفة: انسحاب، استقلال، عودة، ثم تطبيع.

ومع ذلك لن يتوقف الصراع مهما كانت تكلفته. ومن يعتقد من الصهاينة الاستعمارين وحلفائهم الإستراتيجيين من عرب وعجم وغرب رأسمالي باستسلام الشعب الفلسطيني وقيادته، يكون مخطئاً جدًا. وشواهد الصراع المحتدم على مدار العقود السبعة الماضية، والتي تتعاظم في الأسابيع الأخيرة منذ بداية شهر رمضان الفضيل الماضي وحتى ما جرى في "حديقة العاد" على مشارف تل أبيب أول أمس الخميس، وما سبقها من اجتياحات في ذات اليوم للمسجد الأقصى المبارك، وغيرها من الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية يدلل بشكل عميق لكل ذي بصيرة في العالم أجمع، أن الحق الفلسطيني العربي لن يموت، ولن يتنازل عنه أي فلسطيني طفلاً أم شيخاً، امرأة أم رجلاً، قائدًا أو مناضلاً عاديًا.

هنا ولد الفلسطينيون، وهنا انغرسوا وتجذروا، وسيبقون هنا مهما طال أمد الصراع، ولن يرحلوا، ولن يقبلوا بترانسفير ونكبة جديدة، فإما أن يقبل الإسرائيليون ومن يدعمهم المساومة التاريخية، ويقبلوا بصناعة السلام الممكن والمقبول، أو ليواصلوا عنفهم وإرهابهم وجرائم حربهم ضد أبناء الشعب الفلسطيني، الذي سيدافع دفاعًا مستميتًا عن حقه في الحياة الحرة والكريمة حتى بلوغ أهدافه الإستراتيجية، وانتزاع استقلاله على أرض دولته الوطنية المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان العودة للاجئين لوطنه الأم على أساس القرار الدولي 194 والمساواة الكاملة لأبناء الشعب في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة.

المصدر: الحياة الجديدة