كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية يحتاج إلى الكثير من المتابعة والمراجعة، ربما ما جعلني أنبش موضوع الهوية الوطنية مرة أخرى هو ما شهدته مدينة القدس خلال شهر رمضان المبارك  في المسجد الأقصى، وفي عيد الفصح المجيد في كنيسة القيامة. وبما يتعلق بالقدس ومقدساتها، كان الفلسطيني قبل ظهور الصهيونية متصالحًا تمامًا مع المكان، يعتبره ميراثه الطبيعي بكل مركباته الدينية والثقافية والتاريخية، فالبنسبة للفلسطيني هذا هو تاريخه، ولم يكن مضطرًا إلى حصر القدس بزمن معين أو أن ينفي جزءًا منها  ومن تاريخها ليعزز جزءًا آخر.

ورث الفلسطيني هذه الهوية الوطنية،  هذا المركب، فلا تكتمل هويته إلا إذا كانت تتضمن هذا التاريخ وترجمته العملية من واجباته ومسؤولياته، وقد يكون الشاعر الفلسطيني الأهم محمود درويش قد لخص الفكرة بقوله: في القدس، أعني داخل السور القديم.. أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني.. فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدس.

قبل الصهيونية، كان الفلسطيني  ينظر إلى القدس بكل ما فيها من تاريخ وأديان ويرى فيها بأنه هو، يعيش تفاصيلها دون أن يشعر أن هناك فرقًا بين مكان وآخر وبين حجر وحجر. ولكن بعد الصهيونية ومشروعها الاستعماري، الذي بدأ وجوده على هذه الأرض من منطق النفي، نفي الآخر ونفي تاريخه، شعر كل فلسطيني بالخطر الذي يهدد هويته وبدأ بتحمل مسؤولية الدفاع عن هذه الهوية، عن تاريخه، وهذا بالضبط ما شاهده العالم في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان وما شاهده في كنيسة القيامة في عيد الفصح. فالمسألة ليست مسألة دين وحسب، بالرغم من أهمية ذلك، بل هو حالة دفاعية عن هوية وتاريخ ووطن يملك كل هذا التاريخ المقدس.

اعتاد الفلسطيني أن يحتفل بكل الأنبياء لأنهم كلهم تاريخه ومكون مهم من هويته  لذلك هو إنسان متصالح لا ينفي ولا يفرق أو يميز، بل هو معتز بأن هذا التاريخ هو ملكه ويقدمه بكل رضى للإنسانية جمعاء. الوباء أصابه وحل بتاريخه منذ أن حلت الصهيونية ومشروعها المحتكر لتاريخ المكان، والذي يرفض أن يتعايش مع الآخر.

ولأن هوية الفلسطيني الوطنية هي بهذه التركيبة الدينية والثقافية والتاريخية، فإنه يتحمل مسؤولية تصبح ثقيلة جدًا عندما يحاول طرف تغيير المعادلة، وفرض تاريخ هو ليس التاريخ الشامل للجميع. المشكلة في كل ذلك هي محاولات إسرائيل الصهيونية احتكار المكان لها وحدها وعدم التخلي عن سياسة النفي. الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني ليست مجرد حيز جغرافي ثابت أو تراثًا شعبيًا ونمط حياة، بالرغم من أن كل هذه المكونات هي مكونات رئيسية في أي هوية، فإن مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية  هي أكثر تعقيدًا وفيها مسؤولية أكبر وعلى أساس ذلك يجب أن نفهم تصرفات وممارسات الشعب الفلسطيني، فهو شعب لا يمكن أن يكون متعصبًا أو متطرفًا، إنما هو اليوم في حالة دفاع عن النفس، عن تراثه وتاريخه الذي وجد فيه نفسه منذ آلاف السنين. كل فلسطيني بلا استثناء يرى في كنيسة القيامة رمزه الديني والوطني، ويرى المسجد الأقصى رمزه الديني والوطني،  في كلا الأمرين  فإن الوطني هو الأبرز في ظل الصراع مع المشروع الصهيوني.

المصدر: الحياة الجديدة