امل خليفة/ "أبو عمار لم يفارقنا..لأنه يعيش فينا. فهو يعيش في قلب كل طفل وشاب وشيخ، وفي كل بيت وشارع..لقد كان أبو عمار لنا أخاً وصديقاً وقائداً، ولا يمكننا أن ننسى جملته الشهيرة حين قال: "يريدونني طريداً أو أسيراً وأنا أقول لهم شهيداً شهيداً شهيداً". فهذا هو أبو عمار الذي كان همُّه الوحيد فلسطين، ومات وهو يوصي بالمحافظة على الرواتب وعلى الفلسطينيين في لبنان، ورحل وأمله الحصول على أراضي الـ67 دون تبادل، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية".
بهذا التقديم وبهذه الكلمات بدأ الأخ اللواء محمود ضمرة أبو عوض حديثه حول الشهيد أبو عمار والانتفاضة الثانية.
تخبرنا كيف بدأت الانتفاضة الثانية؟ وما هي أسبابها؟ وكيف تعاطى معها الرئيس الراحل أبو عمار؟
بعد عودة الرئيس الراحل أبو عمار وفشل محادثات "واي ريفر"- حيث لم يتم التعاطي مع المطالب الفلسطينية بجدية كالحق بالقدس، ورفض سيطرة الفلسطينيين على الأراضي المحتلة عام 1967 بنسبة 97 % منها- رفض الرمز الراحل وبشدة الحلول التي طُرِحت بوقتها والتي لا تعبِّر عن الرغبة الفلسطينية. وأيضاً كان حي الأرمن الواقع في القدس نقطة للخلاف، وتم رفض هذا المشروع رفضاً قاطعاً، إذ إنَّ الرئيس الراحل أراد أن نحصل على أراضي الـ67 كاملة دون أي تبادل، وأراد انسحاباً كاملاً من هذه الأراضي، وإعلان القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية حسب الخارطة. وبرفضه للمشروع الإسرائيلي ولدى عودته إلى أرض الوطن قابلته الجماهير الفلسطينية بالهتافات والتأييد والمظاهرات دعماً لموقفه، وفي تلك الأثناء كان شارون رئيساً لحزب العمل وللحكومة، وقام بخطوته المعروفة باقتحام المسجد الأقصى مع مجموعة من المستوطنين المتزمِّتين رداً على رفض الرئيس الراحل للشروط الإسرائيلية، ما أدى إلى إشعال فتيل الانتفاضة. وبالطبع أيَّد الرئيس الراحل هذه الانتفاضة، لأنه لم يجد الآذان الصاغية لمطالب وحقوق الشعب الفلسطيني- وهنا لا بدَّ أن أُشير إلى أننا نحن أيضاً وحتى هذه اللحظة سائرون على نفس الدرب مع الرئيس أبو مازن الذي يرفض أي تنازل عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني- فكانت الانتفاضة الشعبية وتخلَّلها انتفاضة مسلَّحة. وهنا بدأ الإسرائيليون بالخطف، وهدم المقرَّات الأمنية ومؤسَّسات السلطة الوطنية، وقاموا بعمليات الاجتياح والاغتيال ضد أبناء شعبنا ومدننا الفلسطينية، وأقاموا الحواجز وقطعوا سُبُل التواصل بين المدن، مما زاد وتيرة العنف والعنف المضاد، وعليه تمَّ تشكيل الكتائب المقاومة من قِبَل الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها كتائب شهداء الأقصى، وكتائب أبو علي مصطفى، وكتائب عز الدين القسَّام وغيرها. ورغم أن أبو عمار لم يعطِ التعليمات بتشكيل هذه الكتائب، إلا أنه لم يكن لديه أي مانع وذلك رداً على الممارسات الإسرائيلية الهمجية، ولم يكن المطلوب أن ننتظر التعليمات فالشعب يعلم ماذا يريد قائده من خلال خطاباته ولقاءاته، وعندما قال خطابه الشهير "عالقدس رايحين شهداء بالملايين" فماذا كان يعني برأيك؟! بالطبع هو يعني أن نقوم بكل ما نستطيع، خاصةً في وقت لم يعد للموضوع السياسي أي قيمة فيه. فاتفاقية أوسلو بُنِيت على أن يتم الانسحاب من المناطق بمراحل وأن يتم الإفراج عن الأسرى وأن تُعلَن الدولة الفلسطينية على أراضي الـ67 خلال خمس سنوات، ولم يتم أي من هذا الاتفاق، بل إن الإسرائيليين أخذوا يتنصَّلون من الاتفاقيات، وبالتالي فلم يبقَ أمام أبو عمار سوى الانتفاضة. نعم لم نكن ولسنا اليوم بالقوة الكافية لمواجهة الجيش الإسرائيلي، إلا أننا شعب التضحيات ولدينا حقوق ومعاناة، لذا فالقيادة لم ولن تكبح ثورة الشعب ضد المحتل وغطرسته. غير أن العالم نظرَ إلينا كإرهابيين لا كشعب احتُلَت أرضه، وتعامل بمكيالَين رغم آلة القتل الإسرائيلية والهدم والخطف، وزاد التعاطف الدولي مع الإسرائيليين وقت أحداث (11 أيلول) والحرب على الإرهاب، فكنا نحن المتأثرين حيثُ توقَّف الدعم للقضية الفلسطينية عربياً ودولياً وإنسانياً، وكانت الانتفاضة في أوجها، فاستغل شارون الأمر وأجرى انتخابات مبكرة وفاز برئاسة الحكومة، وبدأت حملة الاجتياحات، وكان اجتياح العام 2002 لمدينة رام الله ومحاصرة مقر المقاطعة حيثُ الرئيس الراحل لأكثر من 32 يوماً محاولة منهم لكسر شوكة الرئيس.
كيف تعامل الرئيس الراحل مع ردود الأفعال العربية والدولية السلبية تجاه القضية الفلسطينية والانتفاضة؟
بالتأكيد بعد أحداث (11 أيلول) اكتفى العديد من رؤساء العالم والعرب بمكالمة هاتفية للرئيس الراحل وأكثر المكالمات كانت لرجاء تهدئة الوضع، إلا أن موضوع دعم الانتفاضة كان أمراً مفصلياً بالنسبة له، ولم يكن يستطيع العودة إلى الخلف خاصة أن السلطة الفلسطينية في حالة من الدمار الشامل والشعب الفلسطيني في حالة هيجان، غير أن الرئيس الراحل بقي صامداً في مقره في المقاطعة ولم يرضخ لمطالب الأكثرية بالخروج من الوطن، حتى انه لم يستطع المغادرة إلى قمة بيروت بسبب حصاره وتحدَّث عبر (الفيديو كونفرنس) وقتها ولم يُعطَ الكلمة الأولى، وهذه كانت مؤشرات للمواقف العربية والدولية، بل إن العديد منهم تنصَّل من مسؤوليته تجاه الرئيس وتجاه الشعب الفلسطيني، حتى وصل الأمر إلى اتفاقية السلام العربية الإسرائيلية التي دعا إليها الأمير عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية مقابل دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، ونحن وافقنا عليها، ولكن الحصار اشتد على الرئيس الراحل وكانت حجة الإسرائيليين أن هناك مطلوبين في المقاطعة ومنهم أنا واللواء الطيراوي ومجموعة من المقاتلين المطلوبين الموجودين في المقاطعة، إلا إن الرئيس أبو عمار رفض تسليمنا جملةً وتفصيلاً وكان على يقين من أن غاية هذا الأمر هي مجرد حجة لحصاره. فهدَّدوا أكثر من مرة بقصف المقاطعة خلال نصف ساعة وربع ساعة والرئيس ومن معه فيها، إلى أن قامت الهبَّة الجماهيرية التي استشهد خلالها الصحفي في إذاعة فلسطين عصام التلاوي وآخرون، حيثُ اخترقت الجماهير وقتها منع التجول في نصف الليل دون أي سابق إنذار، ما أجبر الإسرائيليين على التراجع عن موضوع قصف المقاطعة، وأعلَمنا وقتها الرئيس الراحل عن مكالمة بين شارون وبوش يسأله فيها عن قتل أبو عمار حيثُ أبلغه الأخير أنه سيموت ولكن ليس هكذا، وفعلاً قتلوه بطريقتهم الخاصة.
كيف يمكن أن تصف لنا القائد الرمز رحمه الله خلال فترة حصاره في المقاطعة؟ وكيف تعامل مع حالة الحصار على المستوى الوطني والإنساني؟
تواجد الرئيس الراحل مع الجميع وفي نفس الوقت كان يسأل هذا ويكلم ذاك، وعايش جميع المحاصرين معه أفراحهم وهمومهم وأغرب حالاتهم، وكان يتفقَّدنا في مواقعنا يومياً مرتين إلى ثلاث مرات، ويستطلع احتياجاتنا. وأذكُرُ أنه في أحد الأيام قال له أحد الجنود، ويُدعى سعد، أنه لم يعد لديه ملابس، فضحك أبو عمار وقال "أعطوه ملابسي". كما كان الشهيد يحاور الجميع ويتفقَّد السواتر الترابية ويعطينا توجيهاته بالحركة والتنقُّل فيما بين أجزاء المقاطعة المدمرة رغم علمه أن سواترنا وخزاناتنا وأدراجنا لن تقف أمام مدافع دباباتهم، إلا انه كان يرسل إشارات بأننا هنا وسندافع عن أنفسنا ولو بقشة وسنبقى صامدين حتى النهاية، حتى إنه كان يختلق الاشتباك بيننا وبينهم. وفي إحدى الليالي، سألنا الرئيس "هل الإسرائيليون يحتلون غرفة نومي"، وكانت غرفته في القسم الآخر من المقاطعة حيث مقر محافظة رام الله آنذاك، فقلنا "نعم يا سيادة الرئيس"، فقال: "حوشوهم"، وبالطبع فالرئيس حينها لم يكن يعني غرفة النوم بمفهومها المادي بل بمفهومها المعنوي من كرامة ومن شموخ. وهكذا كانت معركة استمرت ليلة كاملة تحدَّث عنها الإعلام والفضائيات، وامتدت من غرفة لغرفة ومن باب إلى باب، حتى وصلنا غرفة الرئيس وكان الإسرائيليون يضعون أكياس الأرز والعدس والحمص كمتاريس لهم هناك، فأجبرناهم على الانسحاب من الغرفة وأكلنا العدس والأرز والحمص لفترة طويلة حيثُ أنه لم يكن لدينا طعام نأكله.
بصفتك قائداً ميدانياً للانتفاضة، كيف كنتم تتلقون التعليمات من الرئيس الراحل وعلى ماذا كانت تلك التوجيهات تعتمد؟
لم يكن الرئيس الراحل يوجِّه لنا التعليمات بشكل مباشر، ولكننا كنا نعلم بواقع التجربة ماذا يريد القائد الرمز أبو عمار، فكنا نفهم عليه كما يقولون (بالوما)، وكان يعطي إيماءات بإمكاننا فهمها كيف نشاء وبإمكاننا التغاضي عنها، وبإمكاننا التنفيذ، إلا انه لم يكن يعطي أوامر رسمية بالعمل الميداني وكان يترك لكل منا مساحة للاجتهاد حسب ظروفه، وهو بالمقابل لم يكن يرفض العمل، ورفضه الوحيد كان العمليات الاستشهادية والعمليات داخل تل أبيب لئلا تكون مآخذ على الانتفاضة الوطنية، وكان يشجِّع العمل داخل حدود أراضي الـ67 على أساس أنها أراضٍ محتلة ومتَّفق عليها، وعلى أساس أن الاستيطان باطل والمستوطنات غير شرعية. وعليه، فنحن اليوم بحاجة إلى انتفاضة سلمية تترأسها كافة التنظيمات والكوادر والهيئات والنقابات ويتبناها الشعب الفلسطيني، خاصةً بعد انتزاعنا لحقنا الشرعي في الأمم المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطينية بصفة مراقب ما يفرض علينا التعامل السلمي والتفاوضي للوصول إلى مبتغانا الوطني، وسيأتي اليوم الذي نصل فيه إلى دولتنا المستقلة.
ما هو تأثير بعثات السلام التي اقتحمت حواجز الاحتلال للتضامن مع الرئيس أبو عمار والمحاصرين داخل المقاطعة؟
بداية دخلت مجموعة من المتضامنين الأجانب إلى المقاطعة من عدة جنسيات دولية، حيثُ عبروا الدبابات والحواجز الإسمنتية التي نصبها الاحتلال وتجاوزوا الركام والمباني المهدمة حول المقاطعة وكانوا بحدود الأربعين، فاستقبلهم أبو عمار رحمه الله وأمَّن لهم أماكن للإقامة والمنام، وكان يتفقَّدهم باستمرار ويشد من عزيمتهم ويشكرهم على موقفهم تجاه القضية الفلسطينية ووجودهم معه، وكان يتفاعل معهم بتفاصيل الحياة، حتى أنه حين عَلِم بذكرى مولد أحدهم، قرَّر الاحتفال معه، وكان الاحتفال عبارة عن بقايا شمعة على علبة لحمة صغيرة وصحن حمص، وفعلاً تفاعل مع الموقف بكل حب وعطاء، وعندما كان أحدهم يستطيع الخروج من هنا أو هناك كان الرئيس الراحل يوصي للنساء منهم باحتياجاتهن ويفضلهن على نفسه، وكان جبل المحامل بحق إذ إنه لم يهتم بأموره أو باحتياجاته أبداً. وفي يوم قرَّر الإسرائيليون جرف إحدى البوابات القريبة منا، فاغتاظ الرئيس جداً وحمل الرشاش وركض باتجاه الجرافة، وكنا ممسكين به خوفاً عليه وهو يسب ويشتم ويصر على إطلاق النار تجاههم. هذا كان أبو عمار، الذي رفض أن يُطرَد من وطنه، ورفض أن يؤسر ورفض أن تسقط الكوفية عن رأسه، طالباً الشهادة من خلال حقيبة مفخَّخة كانت بجانبه دوماً ولمدة ثلاث سنوات، وعندما سُئل عن سبب ذلك قال: "هل ترون أن يدخل الجيش الإسرائيلي ويأسرني أنا ياسر عرفات، ويضعون الكوفية تحت أقدامهم ويقيِّدون يدي أمام شعبي أفضل؟ أم موتي أفضل؟!" واستمر يردد أمام الجميع وعلى شاشات التلفزيون شهيداً شهيداً شهيداً، و"النار ولا العار..أموت بفخر أفضل وإلا لن تقوم قائمة للشعب الفلسطيني بعد ذلك..". وقد كان الشهيد أبو عمار فعلاً على استعداد لإنهاء حياته على أن يركع أمام الإسرائيليين، وقد بكينا يومها وزاد إصرارنا على المقاومة حتى الاستشهاد، وكنا على استعداد كامل أن نموت ونحن مع أبو عمار ولم يكن فينا متخاذل أو جبان، وكيف ذلك ونحن نراه على استعداد للتضحية بحياته. ورغم قصف المقر ونحن بداخله، وقيام الإسرائيلي بالنداء من خلال مكبِّر الصوت، إلا أنه لم يجد منا من يخرج حاملاً الراية البيضاء. وحتى أن الشهيد الراحل كان رافضاً لتسليم المطلوبين ويقول "إذا سلمتكم لهم وكأنني سلَّمت نفسي". حقاً لدى أبو عمار مواقف تعجز الرجال عنها، فهي مواقف إنسانية ورجولية ووطنية، ومواقف إنسان كرَّس حياته لهذه القضية وهذا الشعب.
لو عدنا إلى بداية الانتفاضة، فما الذي يمكن أن يتغيَّر؟
بالتأكيد هناك أمور كثيرة كان لا بد أن تتغيَّر، أهمها إبقاء الانتفاضة شعبية وكان هذا الأمر سيوجب على العالم النظر إلينا بطريقة مختلفة كالانتفاضة الأولى. وأنا كرجل عسكري ضد عسكرة الانتفاضة رغم أنني من رجالها. فبعد العمليات العسكرية انقطعت أوصال الوطن وبدأت بعض الأطراف تتصرَّف على عاتقها دون قرار قيادي وهذا الأمر سبَّب لنا العديد من الإحراجات، إذ إن القرارات الفردية في بعض المناطق كانت سلبية وليست لصالح الوطن والانتفاضة، وتحمَّل الأخ الرمز عواقبها جميعها رغم أن أهداف العديد منها كانت تتعارض مع أهدافه خاصة العمليات العسكرية غير المدروسة كتفجير باص للأطفال مثلاً أو تفجير المقاهي داخل الأراضي المحتلة عام 48. ولكن حين كان التركيز على أراضي الضفة لم يكن المستوطنون بمأمن أبداً وكانوا لا يتحركون إلا بحماية، غير أنه بانتقال العمليات إلى الداخل أصبحت الضفة أكثر أماناً بالنسبة لهم. ومن هنا فقد كان المفروض أن تلتزم كافة الأطراف الفلسطينية بقواعد اللعبة، لكن عدم التزامها أثَّر سلباً على موقف الرئيس وعلى الانتفاضة، إذ إنه ينبغي أن يكون الموقفان العسكري والسياسي متوازيين. ولكن الاندفاع والعواطف كانا سيدي الموقف بالنسبة للشباب للتعبير عن موقفهم ضد الاحتلال والمستوطنات، ورغم أن للأمر جوانب إيجابية، إلا أنه أضر بالمشروع السياسي، فقوة الشعب الفلسطيني في كونه ضحية وتعاطف العالم معه، للضغط على إسرائيل لاسترداد حقوقنا، ورغم ذلك استمر أبو عمار بالمطالبة بدولة فلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية واستمر بالمطالبة بالحل العادل للاجئين وخاصة في لبنان.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها