أعلنت حركة حماس رسمياً في مساء 1/مايو/2017م، وثيقتها السياسية بعد مرور قرابة ثلاثين عاماً على وثيقتها الأولى، وقد تميزت وثيقتها الجديدة بمميزات أبرزها، القبول بدولة فلسطين على حدود العام 1967م، واعتبار الصراع مع إسرائيل صراعاً سياسياً لا دينياً، وخلو الوثيقة الجديدة من أي ذكر لجماعة الإخوان المسلمين.

فما هي ماهية التغيير الحقيقي الذي تعكسه هذه الوثيقة ؟! ولماذا الآن في هذا التوقيت بالذات ؟! وما هي دوافعه الحقيقية ؟!

لاشك أن جملة من المتغيرات قد جرت على الواقع السياسي الفلسطيني، والعربي والدولي خلال الثلاثين عاماً التي مضت على تأسيس حركة حماس ونشر وثيقتها الأولى، التي ميزت فيها نفسها عن الحركة الوطنية الفلسطينية وعن م.ت.ف الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وقد جهدت في انتزاع صفة الممثل الشرعي والوحيد عن م.ت.ف على مدى العقود الثلاثة الماضية، وكرست إنقساماً سياسياً عميقاً، في وحدة القوى الفلسطينية، وتجذر هذا الإنقسام السياسي أكثر فأكثر بعد إنقلابها على السلطة وعلى نفسها، وإنفرادها في إدارة قطاع غزة لمدة تصل الآن إلى عشر سنوات، وسعت فيها عبر علاقاتها الحزبية والإقليمية أن تنتزع شرعية لهذا التفرد، إلا أنها اصطدمت بثبات الموقف الفلسطيني والوطني والعربي والدولي بإعتبار م.ت.ف ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، الذي لم يترك لحركة حماس أي مجال للإستمرار في لعبة البحث عن البديل لـ م.ت.ف لتحل محلها، وبالتالي لم يبق أمام حركة حماس سوى التخلي عن فكرة البديل، والإنتقال إلى فكرة المشاركة فالسيطرة على م.ت.ف، من الداخل وبذلك إحكام قبضتها على م.ت.ف وممارسة سياسة الإقصاء والتهميش ثانية للقوى الأخرى عبر إحداث إنقلاب داخلي مستقبلاً في بنى مؤسسات م.ت.ف، وفرض نفسها بالتالي ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، كما فعلت في إنفرادها بحكم قطاع غزة.

من هنا جاء التغيير في وثيقة حماس وفي البند 29 ( بإعتبار م.ت.ف إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه، مع ضرورة العمل على تطويرها، وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، تضمن مشاركة جميع مكونات وقوى الشعب الفلسطيني بما يحافظ على الحقوق الفلسطينية ).

وأما عدم ذكر إرتباطها بجماعة الإخوان المسلمين والتي تعتبر تاريخياً وواقعياً وسياسياً هي فرعها في فلسطين، ودرة تاجها في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي بعد مهادنة دامت أربعين عاماً، أيضاً أملتها التغيرات الحاصلة في الإقليم بعد تورط الجماعة في أحداث الربيع العربي الدامي، الذي أدى إلى إعتبار عدد من الدول العربية أن جماعة الإخوان المسلمين ((هي جماعة إرهابية)) وباتت محظورة في العديد من الدول في مقدمتها مصر والمملكة العربية السعودية وغيرهما من الدول العربية، كما أن بعض الدول الغربية والتي كانت ومازالت حاضنة لقيادات تلك الجماعة بدأ البعض منها يعيد النظر فيما إذا كانت هذه الجماعة إرهابية أم لا، الشيء الذي دفع حماس إلى إخفاء هذه العلاقة، والإعلان أنها (حركة تحرر وطنية فلسطينية بمرجعية إسلامية)، والعارف بطبيعة جماعة الإخوان المسلمين، يدرك أن هذا التغيير (شكلي وليس موضوعي) وستبقى جماعة الإخوان المسلمين هي الحاضنة الأساسية لحركة حماس والمرجعية السياسية لها، والتي وضعت حركة حماس في خانة الاستخدام والاستثمار السياسي لها ولحلفائها من دول الإقليم على مدى العقود الماضية والتي رعت نشأتها وتأسيسها ومولت مسيرتها وإنقلابها على الشرعية الوطنية الفلسطينية ولازالت لغاية الآن، إن مصداقية التحول ستوضع على المحك أولاً في إنهاء الإنقسام من خلال تسليمها قطاع غزة للشرعية الوطنية (لحكومة الوفاق الوطني) والإمتثال لإتفاقات المصالحة الموقعة في القاهرة والدوحة، والشاطئ، حتى تتمكن حكومة الوفاق من القيام بدورها كاملاً حول إدارة القطاع بما فيه المعابر وإنهاء حالة الحصار والإعداد لإجراء الإنتخابات الفلسطينية بكل مستوياتها البلدية والتشريعية والرئاسية، لكن الأمور على أرض الواقع لازالت حماس تتمترس في مواقفها الإنقسامية، وترفض التسليم لحكومة الوفاق الوطني وتضع العقبات أمام إتمام المصالحة.

ولاشك أن الوثيقة الجديدة قد اقتبست بنود عديدة من ميثاق ومبادئ وأهداف حركة "فتح"، جوهرة م.ت.ف في توصيف نفسها وتحديد علاقاتها مع دول الجوار العربي، وحتى محاولة ضبط إيقاعها حسب تفسيرات خالد مشعل مع ضوابط القانون الدولي، لتسوق نفسها إقليمياً ودولياً أنها سوف تلتزم بالحدود الوطنية الفلسطينية في نشاطها وكفاحها، وأنها نسخة أخرى عن حركة "فتح" وعن م.ت.ف في هذا الشأن، وفي هذا السياق يأتي البند 20 من وثيقة حماس الذي يتحدث عن إمكانية قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود العام 1967م، وعاصمتها القدس كتوافق وطني حول هذا الهدف ودون إعتراف من حماس بإسرائيل ... إنه منتهى الفتاكة السياسية (الغباء والإستغباء) للقوى الفلسطينية والإقليمية والدولية ...!!

وفي مقاربة بين بعض البنود الواردة في الوثيقة مع بعضها البعض تجد التناقض الصارخ، الذي لا يعبر إلا عن مزيد من الغموض والمخادعة حسب فكر وثقافة جماعة الإخوان المسلمين التي هي جزء لا يتجزأ منها، من هنا تظهر الدوافع الحقيقية لحركة حماس للتغيير في سياساتها ومواقفها، عبر هذه الوثيقة لمجارات المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، بدءاً من النأي بالنفس عن جماعة الإخوان المسلمين المتورطة في حرائق الربيع العربي والإرهاب، وما ترتب عليه من حظر لنشاطها في العديد من الدول إلى فشلها على مدى ثلاثة عقود من النيل من م.ت.ف كممثل شرعي وحيد أمام ثبات الموقف الوطني والعربي والدولي، وسلسلة الإنجازات التي حققتها م.ت.ف على المستوى الدولي والمحلي.

يضاف إلى ذلك الرغبة الدولية في إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية والذي بات مرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بحل مجمل أزمات المنطقة وفي مقدمتها مكافحة الإرهاب، وإعادة الإستقرار لدول المنطقة، والذي لن يتأتى دون حلٍ للقضية الفلسطينية، فهنا تسعى حماس كي تكون ضمن منظومة الحل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

نخلص إلى أن هذه الوثيقة الجديدة لحماس هي محاولة إستجابة لجملة من التغيرات الإقليمية والدولية، كي تبقي لحماس دوراً في أية ترتيبات أو حلول قد يشهدها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأن تكون شريكاً مقبولاً من القوى الإقليمية والدولية الساعية  لذلك، فهي وثيقة تعبر عن إنتهازية سياسية مفرطة، أكثر مما تعبر عنه من تطور سياسي لحركة حماس.