الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

بعد خروج المقاومين الفلسطينيين ومنظمة التحرير من لبنان، حاول أهالي المخيمات العودة إلى بيوتهم بعدما كانوا قد هجروها أو هُجِّروا منها أثناء القصف الإسرائيلي بالطيران، وتشتّتوا وتوزّعوا في ضواحي بيروت ومنطقة الحمراء ومنهم من هرب إلى سوريا.. في ذلك الوقت، أنا كنت قد أنهيت مرحلة الدراسة الثانوية العامة والتحقت بمدرسة التّمريض التابعة لمؤسسة صامد في مستشفى عكا، وقد كنت طالبةً في آخر السنة الأولى عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي.. 

وتوقّف التّدريس خلال الحرب لمدة ثلاثة أشهر، وعندما استقر الوضع قليلا وهدأت الحرب طُلب من طلاب السنة الأولى النزول إلى المستشفيات والأقسام لأن وقتها كان مستشفى عكا ومستشفى غزة ممتلئين بالمصابين والجرحى بسبب القصف.. ولكن لم يدم الحال طويلا، فبعد أيام قليلة دخل الجيش الصهيوني إلى العاصمة بيروت، صباح يوم الإثنين، وكنت يومها في المستشفى حسب برنامج التّمريض، وسمعنا أصواتا خارج المستشفى وصوت الملالات على الطريق العام قرب جسر المطار المُحاذي لمستشفى عكا، وخرجنا لنستعلم ماذا يحدث في الخارج، وكانت المفاجأة الكبرى.. الجيش الصهيوني يتقدّم بمعدّاته ودبّاباته بالإضافة إلى الجنود المُشاة المُدجَّجين بالأسلحة.. كان مشهدًا مخيفًا ومرعبا، وسألت نفسي وقتها: الفدائيون الفلسطينيون رحلوا، فلماذا دخل اليهود؟!

عند هذا المشهد المرعب، عدتُ مسرعةً إلى المستشفى وأخبرتُ الجميع بأنّ الوضع خطير جدًّا ولا يجب المغادرة. هناك من وافقني الرأي وهناك من قال بأنّ هذه مستشفى ومستحيلٌ أن تتعرّض إلى أيّ أذى حسب الأعراف الدولية فهي مؤسسة إنسانية وانتهاكها يخالف القوانين. وقتها لم أعلم أَهو الخوف أو الإلهام من الله ألّا أبقى في المستشفى! وفعلاً تركتُ المستشفى مع بعض الزملاء وكنا حوالي أربعة أو خمسة أفراد، وعدنا إلى مخيم برج البراجنة مشيًّا على الأقدام.. وحوصر مخيم صبرا ومخيم شاتيلا من طرف المجموعات التي ذكرناها سابقا.. كان عناصرها مُتعطّشين للنيل من الفلسطينيين العُزّل الذين لا حول له ولا قوة.

حُوصرت مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين لمدة ثلاثة أشهر لم يتوقف خلالها الذبح والقتل والتنكيل بكل فلسطيني، حتى وصل عدد القتلى إلى أكثر من تسعة آلاف شهيد، ومنهم بعض العائلات اللبنانية النازحة من جنوب لبنان. وهذا عدا عمّن فُقدوا ولم يُعلم مصيرهم حتى هذا اليوم.

وبعد فكّ الحصار عن المخيمات، ذهبت مع أختي دلال وصديقتنا رفقة منصور لنرى ماذا حصل في المخيم، وليتنا ما ذهبنا! كانت الجثث متناثرة على طول وعرض المخيم، مُشوَّهة وبينها المقطوعة الرؤوس والأطراف.. وجثث النساء والحوامل والأطفال والأجنّة التي أخرجت بطون أمّهاتها.. لم يرحموا أحدًا لا شيخا ولا طفلا ولا حاملا، فقد كانوا وحوشًا قُدّت قلوبهم من صخر ولو أنّ من الصخر ما يتشقّق من خشية الله.. لن أنسى ما حييت هذه المشاهد المرعبة لأبناء وطني وهم جثث مُشوّهة كأنّما خلقهم الله ليُقتلوا وليس من أجل أن يعيشوا مثل بقيّة البشر! وكذلك كان الحال في مستشفى غزة، فقد قُتل كل من فيها من طاقم الأطباء والتمريض والمرضى والمصابين.. أبادوهم عن بكرة أبيهم، وتركوا خلفهم المستشفى دمارًا على من فيها!.