الشاعرة والكاتبة الفلسطينية نهى عودة
النار كلمةٌ حملت الكثير من الأوجه والعبارات، فاقتضى طرحها لتلائم حاجة المتكلم عنها وظروف تواجده على هذه الأرض، وحسب العصر الذي انتمى إليه، وتبعا للظرف الذي وضع به، ووفقًا للصفة التي حملها هذا أو ذاك الإنسان في تعامله مع النار. النار تحمل رمزية شديدة التعقيد، فهي مجموعة من المتناقضات التي أسدلت عليها بُعدًا فلسفيا وجماليا يتجاوز مجرد كونها أداة للحرق أو الدمار.. النار ترتبط بدورات الحياة والموت، بالتحوّلات التي تصيب الكائنات والأفكار، وبدونها، قد يفتقد الإنسان ذلك العنصر الأساسي الذي يعبّر عن إرادته في البقاء أو التطوّر.
النار في الأساطير والثقافات القديمة
في معظم الأساطير القديمة، كانت النار رمزًا لقدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة، مثلاً، في الأساطير اليونانية، أخذ "بروميثيوس" النار من الآلهة وقدّمها إلى البشر، ممّا رمز إلى تقدّم الحضارة البشرية من خلال العلم والمعرفة، لكن في الوقت نفسه عوقب بشدة، ممّا يعكس أيضًا أن القوة التي تمنحها النار قد تكون خطيرة ولا أمان في التعامل معها.
في الزرادشتية، وهي ديانة قديمة ظهرت في بلاد "فارس"، تمثل النارُ الحقيقةَ والنقاء، ولذا كانت تُعبد وتُعتبر مقدسة، وتستخدم في الطقوس الدينية. وفي العديد من الثقافات، تُمثل النار طاقة الكون أو الحياة الروحيّة.
النار في الأدب العربي
نرى توظيف النار بشكل مُعقّد في الأدب، حيث استخدم الشعراء النار كرمز للشغف والرغبة، كما في قصائد "امرئ القيس" الذي وصفها كوسيلة للاتصال بين العاشق والمحبوب.. وفي الثقافات العربية القديمة، ارتبطت النار بالجنّ والعالم الآخر، كما في قصص "ألف ليلة وليلة". كما ارتبطت عند العرب بالكرم، حيث كانوا يُشعلون النار ليلاً لهداية الضيوف، ما جعل النار رمزًا للضيافة، فضلا عن أنها أيضا كانت رمزًا للتهديد أو الحرب. وفي الأدب الصوفي، تُمثل النارُ الشوقَ الإلهي والاحتراق الذاتي في سبيل الله. على سبيل المثال: "الحلّاج" استخدم النار كرمزٍ لفناء الذات في الذات الإلهية، حيث تُصبح النار وسيلة للتحوّل الروحي والوصول إلى الاتحاد الإلهي.
في الأدب والفنون
في الأعمال الأدبية المعاصرة، كثيرًا ما يتمّ توظيف النار كرمز للثورة على الظلم الاجتماعي والسياسي. في رواية "فهرنهايت 451" للكاتب الأمريكي "راي برادبري"، النار تُستخدم لحرق الكتب، ممّا يُعبِّر عن قمع المعرفة والفكر الحر. وهنا النار ليست رمزًا للتدمير فحسب، بل هي أداة رمزية للنظام القمعي الذي يحاول قتل الإبداع.
النار في التراث والأدب العربي وأساطير الأمم تحمل رمزية متعددة ومعقدة تجمع بين الدمار والإبداع، وبين العقاب والبعث، وبين الإلهام والخوف. يمكن تقسيم دلالات النار على مستويات عدّة نذكر منها:
في الشعر الحديث
كانت النار عند "بدر شاكر السياب" و"محمود درويش" رمزًا للصراع الداخلي أو للآلام الشخصية والجماعية. حيث تمثل النار حالة التحوّل الاجتماعي أو الثوري، وأيضًا الاحتراق الشخصي، سواء أكان ذلك بسبب الحب أو النضال السياسي!
في الفنون التشكيلية
في الفنون الحديثة، استخدِمَت النار كعنصر بصري يعبّر عن الانفجار الداخلي للصراعات النفسية أو الإنسانية. نرى هذا في أعمال الفنان الإسباني "سلفادور دالي" حيث النار ترتبط بالحالة السريالية، والتي تعكس أحلامًا مُشوَّهة، وأحيانًا حالة من الانهيار أو الفوضى..
في الكتابات الشخصية
قد تمثل النار شغفًا أو نضالاً داخليًا، وربّما وسيلة للتحوّل أو التطهير. على سبيل المثال، يمكن توظيف النار لتكون رمزًا لشخصية تسعى إلى الخروج من أزمة أو لتحقيق فهم أعمق لنفسها أو للآخرين. وقد تكون النار وسيلة لتسليط الضوء على التحوّلات الجذرية، سواء أكانت إيجابية أو سلبية.
هل يُمكن للعالم أن يخلو من النار؟
من الناحية الرمزية، من الصعب تصوّر عالم يخلو من النار بمعناها الفلسفي والوجودي. النار ترتبط بالحياة نفسها، بالدفء والطهي والتحوّل والتطوّر، سواء في الخيال الإنساني أو في التكنولوجيا.
أما من الناحية العملية، فإن النار ظلت عنصرًا أساسيًّا في حياة البشر على مرّ العصور، ولا يمكن الاستغناء عنها تمامًا، إلا بتطورات تقنية كبيرة. ولكن يبقى السؤال الأعمق هو: هل يمكن للإنسان أن يستغني عن "النار" بمعناها الوجودي؟
النّار في الفكر الصوفي
الفلاسفة العرب تناولوا موضوع النار في سياقات متعددة تتراوح بين الفلسفة الطبيعية والميتافيزيقا والتصوّف. وكما في معظم الفلسفات، كانت النار تمثل عنصرًا مركزيًّا في محاولة فهم العالم والكون. إليك بعض الأفكار الرئيسية التي قدَّمها الفلاسفة العرب حول النار:
"الكندي"، هو أول فيلسوف عربي إسلامي تأثر بالفلسفة اليونانية، وخاصة أفكار "أرسطو"، بالنسبة له، كانت النار جزءًا من العناصر الأربعة: (النار، الهواء، الماء، التراب) التي تُشكل العالم. "الكندي" لم ينظر إلى النار بشكل منفصل، بل ضمن إطار طبيعي شامل، حيث اعتبر أن العناصر تتفاعل وفقًا لنسب مختلفة لتشكيل الأشياء، والنار تساهم في تلك العمليات التحويليّة من خلال حرارتها وطبيعتها الخفيفة.
"الفارابي" تناول النار في إطار فلسفته المتعلقة بالطبيعة والميتافيزيقا. كان مُهتمًّا بالعناصر الأربعة وتأثيراتها في العالم الفيزيائي. "الفارابي"، كان متأثرًا بـ "أفلاطون" و"أرسطو"، ورأى أن النار عنصر أساسي في تكوين العالم المادي، وتلعب دورًا في تفاعل العناصر وتبدّلها. كما ربط النار بالحركة والروحانيّة، حيث اعتبر أن طبيعتها المُتغيِّرة والمرتفعة تعبِّر عن نزوع الأشياء نحو الكمال.
"ابن سينا" درس النار من منظور فيزيائي وفلسفي. في كتابه الشهير "الشفاء"، قام بتوضيح الطبيعة الفيزيائية للعناصر بما فيها النار، واعتبر أن النار هي أخف العناصر، وأنها تتّجه دائمًا إلى الأعلى. من الناحية الميتافيزيقية، استخدم "ابن سينا" النار أحيانا كرمز للروح والطاقة الحيوية التي تدفع الإنسان نحو تحقيق الكمال. وفي تفسيره للكون، رأى أنّ النار تمثل مظهرًا من مظاهر القوة التي تحرك المادة وتجعلها تتغيّر، ممّا يشير إلى دور النار كقوة تحويليّة أساسية.
"ابن رشد"، أحد أشهر الفلاسفة العرب الذين تأثروا بـ "أرسطو"، تناول موضوع النار في سياق بحثه في الطبيعة والعالم المادي. كان يرى النار كأحد العناصر الأربعة التي تلعب دورًا مهمًّا في تشكيل الكون. كما اهتم بعمليات التحوّل الطبيعي للعناصر، حيث رأى أن النار تمثل عنصرًا للتبدّل والتغيير.
رغم أنه كان فيلسوفًا عقلانيًا، إلا أن "ابن رشد" لم يُهمل الجوانب الرمزية للنار التي قد تشير إلى القوة والإبداع، وهو مفهوم كان حاضرًا في تصوّف معاصريه.
النار كانت تحمل دلالات صوفية وروحية عميقة في الفكر الصوفي لـ "ابن عربي"، فهي تعتبر النار رمزًا للروح المحترقة بالشوق إلى الله. في كتابه "الفتوحات المكيّة"، يرى "ابن عربي" أن النار تعبير عن حالة الفناء والاندماج مع الله، حيث تتطهّر الروح من الشوائب وتتحوّل إلى نور خالص. والنار عند "ابن عربي" ليست مجرّد عنصر طبيعي، بل هي رمز للروحانية العميقة والرحلة الروحية نحو الكمال الإلهي.
"أبو حامد الغزالي" تناول النار من منظور ميتافيزيقي وروحاني في أعماله الفلسفية والتصوفيّة. في كتابه "إحياء علوم الدين"، اعتبر أن النار في الآخرة تمثل عقابًا، ولكنها أيضًا وسيلة للتطهير. النار ترتبط بفكرة العذاب الأخروي، لكنها تحمل في ذات الوقت دلالة على تطهير الروح من الخطايا.. كما ربط "الغزالي" النار بالمعرفة، حيث كان يرى أن المعرفة الروحية، مثل النار، تحرق الشكوك وتنير طريق العارف إلى الحقيقة الإلهية.
"إخوان الصفا"، الجماعة الفلسفية الباطنية التي كتبت رسائل موسوعية، تناولوا النار في سياق فلسفتهم الطبيعية. وفي تصورهم، كانت النار قوة أساسية في الطبيعة تؤدّي دورًا مهمًّا في الحياة والكون. وقد اعتبروها مرتبطة بالقوى الحيوية والروحية التي تنظم الوجود.. كما أنهم ربطوا النار بالتطهير والتحوّل، حيث أن النار، في فلسفتهم، يمكن أن تكون رمزًا للتحوّل الروحي والنفسي، وليست مجرد عنصر فيزيائي.
ما معنى النار في فلسطين؟
النار عند الفلسطينيين، في وجهة نظر الشاعرة الفلسطينية "نهى عودة"، هي النار الأصعب والأكثر توحّشًا في العالم، ففي وطننا تحرق أجساد الأبرياء على مرأى ومسمع العالم، لهذا كان لها تعريفها الخاص الذي لا يمكن لأيّ أحديث أو كُتب أو مجلدات أن تستوعب تعريفها بين طيات صفحاتها.
في وطني تناجي البنت أباها لإنقاذها من النار التي تأكل جسدها.. يركض نحوها فيحترق أيضا حيث لا يوجد ماء ولا دفاع مدني ولا أيّ وسيلة أخرى لإطفاء الحرائق. النار أظهرت قذارة المحتلّ وبشاعة ما يحمله ضدّ الفلسطينيين.. النار لا تنفعنا هنا بل تأكلنا لنموت بحوادث الزمن والحرب والوجع واللجوء والنار.. النار! لا مفرّ من الهروب منها تحت مرمى السلاح ومرمى الشوق إلى فلسطين الأصيلة بترابها وأشجارها وقدسيتها..
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها