(...كناي تبث الحنين إلى غابتها الأولى)

                 جبر جميل شعث

الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

كان الشاعر الفلسطيني الحيفاوي الراحل أحمد دحبور يطلق وصف (الفراشة الحديدية) على الشاعرة  الفلسطينية النابلسية فدوى طوقان، وهذا الوصف ليس بعيداً، عن الوصف الذي أطلقته الشاعرة الفلسطينية العكاوية نهى عودة على نفسها (ياسمينة عكا)، بل هو يتماهى سيميائيًا مع وصف أبي يسار، رحمه الله، لفدوى طوقان. 
فالفراشة تنتمي للحقل الدلالي نفسه الذي تنتمي إليه الياسمينة من حيث الرقة والرهافة والنعومة والجمال المطلق . وكذلك لفظ الحديدية يلتقي دلاليًا مع لفظ عكا المدينة الفلسطينية التي يحتضنها البحر من حيث القوة والمنعة والصلابة، فهذه صفات ثبتت في جبين المدينة وسكانها كما روى لنا التاريخ الناصع غير البعيد، ولعل اسم عكا الكنعاني القديم (عكو) الذي يعني الرمل الحار، لا يبتعد كثيرا عن تلك الصفات الثابتة.

أما هذه المفارقة المتضادة بين وصف الشاعر دحبور لفدوى طوقان، ووصف الشاعرة نهى عودة لنفسها، فهي مقصودة لتأدية وظيفة جمالية تواصلية على قاعدة "والضد  يظهر حسنه الضد"
للشاعرة نهى عودة المولودة والمقيمة كلاجئة فلسطينية في مدينة صيدا اللبنانية، تسعة إصدارات بين الشعر والرواية ولكنا قرأنا لها مجموعتين شعريتين (امراة النور ترمي النرد) وهو آخر إصداراتها ومجموعة أخرى بعنوان (غصن وبندقية). وستكون قراءتنا في هذه المقالة في مجموعة امرأة النور.

ليكن مدخلنا من العتبة عتبة المجموعة التي ستشي لنا عن كثير من الدلالات والإيحاءات والترميزات والبوح الشفيف الذي يخفي تحته الصراخ العالي، صراخ المعاناة الحاضرة والمأساة المستمرة، والجريمة اليومية التي تبث على الهواء مباشرة، وليس شرطاً أن تكون هذه الجريمة من صنع الأعداء التقليديين دائماً. 
فالشاعرة امراة النور، امراة ذات جسد مادي ملموس مضاف إلى النور الذي لا نراه ولا نلمسه ولكنا نتمتع بأثره، وهذه المرأة تبحث عن حظها أو احتمال تحقق حلمها عبر رمي النرد وقد تصيب حظاً وقد يخيبها اتجاه رمي النرد. وكأن الشاعرة عبر دال النور تريد أن تقول لنا إنها من بلاد النور، وليس أحق بهذا الوصف الحقيقي من فلسطين، ولقد كانت جل عنوانات المجموعة روافد دلالية تجري بسلاسة  لتصب في المجرى الدلالي الرئيس المتمثل في عنوان المجموعة.

ونحن نقرأ نصوص نهى عودة نتذكر شعر المقاومة الفلسطيني الذي نشأ بعد هزيمة سنة 1967 بمفرداته وموضوعاته وخصيصاته الفنية التي ميزت ذلك الشعر كشفافية الصورة، ووضوح الرمز، والمباشرة أحياناً في التعبير، إضافة إلى  اللجوء إلى قصيدة القناع، والتناص بأنواعه المختلفة. وشاعرتنا ظلت تستأنس بنار  ذلك الشعر الذي كان يعبر عن قضية عادلة لشعب طاله الظلم وما يزال من الشقيق والصديق قبل العدو، وهي هنا مازالت تؤمن بأن القضية عامة والخلاص جماعي، وهذا بخلاف الشعر الفلسطيني الذي اتجه نحو الفردانية سيما بعد سنة 1993 وقد كان الشعراء الشباب وقليل من المكرسين يغرقون في فرديتهم والانسحاب من منطقة شعر المقاومة بمفرداته وموضوعاته وخصيصاته التي ذكرنا، وقد باتوا يرددون  مقولة: القضية عامة والخلاص فردي.
تعطينا الشاعرة سبباً ودافعاً لكتابتها الموجعة:
تقول في نص (أكتب من غيابة الجُب):
أكتب لأن دماءنا غدت ماءً
والأخوة غدروا بنا 
رمونا في غيابة الجُب 
ويعقوبنا مات 
ما عاد هناك عزيز
وكل دولنا العربية زليخة
والسجن تكدس بالشهداء 
وعصا موسى دفنت معه.

جلي هنا ما يوجع الشاعرة ، وهذه الشكوى السيالة من الحال العربية تجاه القضية، وربما هذا ما جعلها تجنح نحو هذا الوضوح، والوضوح كما نعلم لا يلتقي والشعر، ولكن ما رفع النص إلى مرتبة الشعرية، هو جماليات التناص الموظفة فيه.
وتستمر الشاعرة في تبيان سبب كتابتها ولكن هذه المرة من الوجهة النفسية ومن قاع المعاناة، بسؤال استنكاري مشحون بالألم والاغتراب :

أكتب لأني ممزقة الروح
تدور في رأسي الكثير من الأسئلة
هل نملك اللون نفسه
ونحج إلى الكعبة ذاتها 
ونصلي عل نبينا سويا. (النص السابق)

تدرك الشاعرة أن سؤالها لن يجد له صدى، لذلك هي لا تنتظر إجابة، لذا نجدها تصرخ:

أخذتم روحي ولم تتركوا
لي هنا شيئاً غير خذلان 
اجتاح ثنايا الفؤاد
لم يتمرد على روحي
لم يعد اللمعة إلى خدي 
فلست انا في بلادي
غريبة كنت وازدادت غربتي
ولم اشتر بعد سوى 
كرسي متحرك اقود به جميع شعوب العرب. (نص نزيف الروح)

تحترق الشاعرة شوقاً ولهفة وهي تقيم في بلاد لا تبعد عن بلادها بضعة كيلو مترات، بل إنها ترى  قرى بلادها بالعين وبوضوح إذا ما وقفت على الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان، وما يزيد في حرقة الشاعرة واستبداد القهر بها هي أنها تقيم في بلد اللجوء كغريبة، وبين لغات لا تفهمها :

أنا الآن
 أقيم غريبة بين الزوايا 
بين الاصوات
بين لغات لا أفهمها. (نص لن أرضى بغير حزني بديلا)

إن الشاعرة التي تقاسي ألم وعذابات اللجوء، والتي ترى المأساة وهي تتكرر، لم تفقد الأمل، ويهون عليها كل ذلك التعب الجسدي والنفسي التي تتوازعه مع لاجئي فلسطين ومشرديها في أرجاء الدنيا الأربعة، في سبيل وطن يليق به "كل هذا التعب":

تخيلت لجوءك لمرات عديدة 
لكني اليوم أعلم جيداً 
كيف كان التشرد
يا لمأساتنا مرتين
ويالك من وطن يليق بك
كل هذا التعب 

من المؤكد أن الشعر يستجيب من جهة التعبير للحدث أسرع من الرواية و من القصة ، وهو الأكثر قدرة على العمل في منطقة الانفعال المنبثق من الوجدان. ولكن هذه الاستجابة السريعة للشعر وإن كانت واجبة وضرورية أحيانا، تقلص من عمل وظيفة الشعر ؛بمعنى أن الكتابة الانفعالية ومن قلب الحدث، تأتي على حساب الفن .
إن الوظيفة الشعرية تركز على النص أو على (رسالة النص) بمعزل عن الجانب الانفعالي  عند (جاكبسون) ، ولكن عند (ريتشارد وأوغدن) لا فصل بين الوظيفتين الانفعالية والشعرية، وكذلك عند (جان كوهن) الذي كان الجانب الانفعالي أحد ركائز شعريته، حيث تتلاحم عنده الوظيفتان وحيث لا يمكن الفكاك بينهما. وعليه لا يمكن الفصل بين  ما هو انفعالي/وجداني وما هو شعري في نصوص الشاعرة نهى عودة، فهي تنطلق بقوة وبعنفوان الحنين وتصبو إلى الخلاص الذاتي والجمعي (تحرير الوطن، والخلاص من عذابات اللجوء التي لا تنتهي).

الحنين
وجع بطعم آخر
يرسو على شواطيء الذكرى
حين يطرق بابك. (وجوه في مرايا الروح)

لست بخير 
فانا افتقد أبي المرتسم على قلبه
خارطة بلاده
وافتقد جدتي التي احببت
قد كنت بخير حين كانوا
وما زلت أسمع ضحكاتهم
استمع إلى حديثهم
مهما اخذ الغياب سنينه
وهذا زمن اللاجئين (نص لا لست بخير)

ففي جل نصوص نهى عودة في "امراة النور ترمي النرد" نجد هذا التلاحم بين الانفعالي والشعري، ولمسنا مثل هذا التلاحم في مجموعتها "غصن وبندقية" كذلك. 

رميت نردي منذ زمن 
فانا امراة النور
والاحتمالات تبعدني عن الأمكنة 
فما زلت لا اهوى الانفاق
ولا الرمادي 
وما أهل به لغير الوضوح .(نص امراة النور ترمي النرد).

لقد وحدت نهى عودة بين الوظيفتين الشعرية والانفعالية/الوجدانية وجعلت بينهما زواجاً كاثوليكيا لا فكاك منه إلا بانتفاء أو غياب إحدى الوظيفتين، وربما يكون الشرطان الذاتي والموضوعي هما اللذان يحكمان الشاعرة وبالتالي نصوصها، في بلد اللجوء، واللذان لا يمكن الفصل بينهما بدوريهما، طالما أن الحال هي الحال ، بالنسبة للفلسطيني اللاجيء، في بلاد الآخرين، حيث القمح مر، والهواء حامض، والماء مالح .


*شاعرة فلسطينية عكاوية تقيم في مدينة صيدا اللبنانية.
**صدرت المجموعة عن دار رنة للنشر والطباعة بـ ج م ع عام 2823.