ما يحدث شمال قطاع غزة أكثر من حرب إبادة، وصفته مساعدة الأمين العام للشؤون الإنسانية بأفعال مروعة، تدمير مربعات سكنية بالصواريخ، ضحايا بالعشرات وأشخاص عالقون تحت الأنقاض، حيث يُمنع المسعفون من الوصول إليهم،  والمستشفيات تتعرض للقصف وعشرات الآلاف يهجرون قسرًا إلى المجهول، إضافة إلى نفاد الإمدادات الأساسية. الناس فقدوا كل شيء وهم بحاجة إلى كل شيء، "طعام، ماء، بطانيات"، كما يقول تصريح لـ "الأونروا". 
حرب إبادة شديدة الوضوح في القتل والتدمير والترويع، متلازمة مع أهداف شديدة الوضوح لحكومة نتنياهو التي تقود الحرب. حرب لطرد المواطنين وتدمير منازلهم وتحويل الشمال إلى منطقة أمنية عازلة. ومن أجل تحقيق ذلك، فهم بصدد إدخال فرقة عسكرية جديدة إلى الشمال لإجبار مئات الآلاف من المواطنين على الرحيل، باستخدام المزيد من القتل والتدمير والتحكم بالمساعدات الإنسانية عبر جيش الاحتلال أو باستخدام شركة خاصة بإشراف أمني إسرائيلي.

يأتي ذلك في إطار السيطرة العسكرية على الممرات والمعابر والمواقع الاستراتيجية والتحكم في كل شيء بما في ذلك حركة المواطنين.
ما يلاحظ أن هدف العدوان متدحرج ينتقل من أهداف صغيرة إلى أهداف أكبر فأكبر، من إعادة المختطفين وإزالة التهديد ونموذجه السابع من أكتوبر، إلى إعادة السيطرة على قطاع غزة وتكريس فصله عن الضفة الغربية، وتجريف بنيته المادية والمجتمعية ووضعها أمام تهجير قسري داخلي أوتهجير طوعي إلى الخارج، وإعادة الاستيطان إليه بحسب لوبي متعاظم القوة في معسكر نتنياهو - بن غفير. وكل هذا بهدف تدمير حق تقرير المصير لعموم الشعب الفلسطيني. لقد انتقل العدوان ليشمل لبنان وربما يمتد إلى سائر البلدان العربية بغية استعادة الردع، وصولاً إلى تكريس إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة تتحكم في دول الشرق الأوسط وتعيد صياغته بدعم أميركي غربي صريح. إنها معركة بين محور إسرائيلي أميركي غربي متفوق عسكريًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا، ومحور مقاومة ضعيف ومفكك. بداية، جرى الاستفراد بغزة مع مساندة محدودة من «حزب الله» ومشاركة رمزية من الحوثيين والحشد الشعبي، بدون مشاركة سورية وإيرانية. بعد تدمير قطاع غزة وفرض مستوى من السيطرة العسكرية عليه، توسع العدوان إلى لبنان وقطع شوطًا كبيرًا في تدمير قرى وبلدات الجنوب وضاحية بيروت والبقاع، الآن، تجري الاستعدادات لمهاجمة إيران.
ليس من الصعب ملاحظة الاختلال الفادح في ميزان القوى الذي لم يكن مفاجئًا، وفي شروط الاختلال التي لم تكن صائبة المبادرة في بدء معركة مواجهة شاملة – طوفان الأقصى - التي فتحت أبواب جهنم على الشعب الفلسطيني ثم على الشعب اللبناني، وربما على كل البلدان العربية الممانعة. 
رغم الاختلال، لم تعدل قيادة المحور من تكتيكاتها لتفادي المزيد من الإبادة ولمنع المعتدين من تحقيق أهدافهم وتصعيدها. بقي الخطاب والأهداف والأخطاء والارتجالات على حالها. يقول بيان كتائب عز الدين القسام: «حين قررت حماس وفصائل المقاومة دخول هذه المعركة الكبرى والفاصلة، كانت تعلم أن ثمن التحرير غالٍ جدًا، وقد قدمت القادة والجند رافضة الإذعان للعدو، ولن تتوقف مسيرة جهادنا حتى تحرير فلسطين وطرد آخر صهيوني واستعادة كامل حقوقنا». «معركة فاصلة وطرد آخر صهيوني» لا تتناسب أبدًا مع تفوق إسرائيلي ساحق ضمن علاقات القوة السائدة عالميًا وفي الإقليم.

ليس صعبًا تنبؤ نتيجة المعركة ولا يحتاج المواطن إلى ذكاء ولا انتظار المزيد من الوقت، فالنتيجة يعيشها كل مواطن في قطاع غزة. ورغم ذلك يتكرر في بيان القسام بعد عام ما ورد في بيان قائد القسام محمد الضيف قبل عام عندما أطلق الطوفان يوم السابع من أكتوبر. وقد يخطئ القادة في تقديراتهم حول قوة أو ضعف العدو، وحول استجابة ودعم الحلفاء للشعب الفلسطيني، وحول تأثير الرأي العام العالمي والعربي على سير المعركة، وقد يخطئ القادة في تقدير القيود التي قد يفرضها النظام الدولي ومحكمتا العدل والجنائية ومنظمات حقوق الإنسان على دولة الاحتلال، وقد يخطئون في تقدير تأثير التناقضات في صفوف العدو على المضي في الحرب. أخطأ عبد الناصر في تقديره للموقف قبل حرب 67، وأخطأ صدام حسين في احتلال الكويت، وأخطأ عرفات في عسكرة انتفاضة 2000. غير أن خطأ قادة طوفان الأقصى كان أفدح وأخطر، لأنهم اعتادوا تغليب الإيديولوجيا على السياسة. الخطأ المركب لقادة المحور وبخاصة خطأ قيادة «حماس» لم يؤدِ إلى تعديل أو تصويب المسار. فحرب المواجهة العسكرية تنتهي فقط في مصلحة المجتمع المنكوب والمهدد مصيره، بتحييد القوة الحربية الغاشمة من خلال الانتقال إلى مواجهة سياسية يشارك فيها كل القوى السياسية والمجتمعية المدعومة من الأصدقاء. لا شك في أن التراجع الاضطراري الذي تبادر إليه حماس، يختلف تمامًا عن التراجع الذي قد يُفرض عليها في الميدان. وفي حالة بقاء الأوضاع على حالها، هل تستطيع المقاومة في قطاع غزة وقف حرب الإبادة والتدمير والتهجير والإذلال في شروط الحصار والخنق والتحكم في كل شيء؟ تشير يوميات الحرب إلى أن التوحش الإسرائيلي يستفحل بمزيد من سفك الدماء والإبادة، ليس أدل على ذلك من الشعار المأخوذ من المزمار الذي رفعه الجنود على المبنى الذي استشهد فيه رئيس حركة حماس يحيى السنوار «لتباد الخطاة من الأرض، ولا يبقى الأشرار بعد الآن، باركي الرب يا نفسي هللويا». 

وفي الحالة اللبنانية، لماذا لا يلتزم «حزب الله» بقرار مجلس الأمن 1701 ويعيد للدولة اللبنانية الصلاحيات والأدوار التي صادرها، مقابل نزع ذريعة تدمير ما تبقى من قرى وبلدات الجنوب والضاحية والبقاع ومؤسسات الحزب المدنية. بهذا المعنى ينتقل «حزب الله» من المواجهة الحربية إلى المواجهة السياسية بمشاركة لبنانية وعربية ودولية.
إذا لم يحدث ذلك، ما هو البديل؟ إن الشعارات من نوع: «طالما أن العدو لم يحقق أهدافه فإن المقاومة تكون المنتصرة» و«لسنا مهزومين ما دمنا نقاوم» لا تجيب هذه الشعارات على أسئلة الواقع المأساوي. هناك أهداف غير معلنة، كإطالة أمد الحرب، وتدمير قطاع غزة وإبادة سكانه، وإعادة بناء سيطرة أمنية من داخل وخارج القطاع لا سيما مناطق عسكرية وأمنية ومعابر وأبراج مراقبة. 
هل يستطيع النضال قطع الطريق على الأهداف الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة؟ لا يبدو ذلك ممكنًا، وهذا لا يقلل من شجاعة الفصائل الفلسطينية وتضحياتهم. المطلوب شجاعة تخفف من محنة المواطنين. شجاعة تقترن بالحكمة والعدل والحرية وتقوى على مواجهة التحديات وتملك القدرة على إطاعة أوامر العقل. شجاعة لا تقتصر على التضحية والمغامرة فقط، بل تتوقف أولاً وقبل كل شيء عند مسؤولية حماية الأطفال والأبرياء وحماية المجتمع، ووقف نزيف الدم.