إذا اعتبرنا أن الانطلاقة العملية والتنفيذية لاتفاق المصالحة الفلسطينية، بدأت من حوارات القاهرة التي امتدت من الثامن عشر حتى الثاني والعشرين من كانون الاول الماضي، حين تم الاتفاق على تشكيل اللجان الست وعلى رأسها اللجنة القيادية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي ضمت في عضويتها الفصائل الموجودة خارج المنظمة وهي حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي والمبادرة الوطنية، فإن الثلاثين يوما الأخيرة يجب أن تعطينا حوصلة ذات معنى عن مدى تقدم الجهود التنفيذية للاتفاق، ويجب أن تعطينا مؤشرا واضحا عن صدق النوايا، وحضور الإرادة، بخصوص المضي قدما في المصالحة.

فماذا جرى في الثلاثين يوما الأخيرة ؟ ما هي المحصلة؟ إلى ماذا تشير النوايا؟ وما مدى حضور الإرادة؟

من واقع الاجتماعات الميدانية التي تجري في غزة والضفة، فإن الكلام طيب، ولكن المحصلة قليلة جدا، حتى لا نقول إنها صفر كبير.

دعونا نبدأ على سبيل المثال باللجنة التي تبحث في الموضوعات الأكثر إلحاحا، والتي لها علاقة بالوعي المباشر للناس، ولا تحتاج إلى فلسفات عليا ! بل هي موضوعات مرتبطة بتفاصيل واقعية مرئية ومحسوسة ولا مجال فيها للالتباس، إنها لجنة الحقوق والحريات العامة، والتي تشمل المعتقلين السياسيين في الضفة والقطاع، وموجات الاستدعاءات الأمنية المتلاحقة، وجوازات السفر، وحرية السفر والتنقل، والفصل، والإقصاء الوظيفي، وحرية عمل الهيئات المدنية والأهلية وعودة هذه المؤسسات المصادرة، وعودة المقرات المصادرة لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في قطاع غزة، وحرية صدور ووصول الصحف والفضائيات للعمل في الضفة والقطاع دون عوائق.

كما ترون :

فإن هذه البنود هي الأكثر إلحاحا في الحياة اليومية للناس، ومن الصعب تبرير تقليص هذه الحقوق تحت أي تأويلات، وبالتالي فإن النجاح في حلها يخلق حالة واقعية من سريان المصالحة في الوعي المباشر للأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة والقدس.

ماذا جرى في هذه الموضوعات؟

مبدئيا، الكل يتحدث كلاما طيبا، حتى يخيل للسامعين أن الأمر أبسط من البساطة نفسها، ولكن حين يجيء أوان التنفيذ لما تم الاتفاق عليه وتم التعبير عنه بهذا الكلام الطيب، فإن الكلام يتبخر، والمواعيد تحترق، ولا يتحصل شيء في الغرابيل، كما يقول شاعرنا وفيلسوفنا المتشائم أبو العلاء المعري في مطلع رسالته الشهيرة المعنونة باسم رسالة الغفران!

وهذا يعني ببساطة: أن الذين يجتمعون في اللجان الميدانية المتوازية في الضفة وغزة، والذين يتفقون على نقاط واجبة التنفيذ، ويتحدثون إلينا نحن الرأي العام الفلسطيني بكلام طيب، ليسوا هم أصحاب القرار، وأن المصالحة ليست في قبضتهم، وإلا لكنا تقدمنا خطوات سريعة في الثلاثين يوما الأخيرة، وراكمنا المزيد من الإنجازات! وهكذا يطرح السؤال نفسه تلقائيا، المصالحة في قبضة من؟

آخر محاولة جرت في اجتماعي الثلاثاء والأربعاء التي تمت في الضفة وغزة، وكذلك في اجتماع الأمس، وبعد التشاور التفصيلي بين اللجنتين في الضفة وغزة، حيث التقت اللجنة في غزة مع الأخ أبو العبد إسماعيل هنية وطلبت من نظيرتها اللجنة في الضفة أن تلتقي مع الدكتور سلام فياض، أقول إن آخر محاولة لتحقيق شيء ملموس على الأرض في أي من الموضوعات التي طرحناها، أن يبادر أصحاب القرار في غزة، وأن يبادر أصحاب القرار في الضفة، بانتقاء عدد من المعتقلين السياسيين من هنا وهناك، وإعلان أسمائهم للإفراج عنهم كدفعة أولى، وكبادرة حسن نية، ومن أجل خلق أجواء مريحة، ومن أجل كسر حاجز الإحباط!.

إنها فكرة بسيطة وجميلة وبراغماتية جدا، إنها محاولة لبداية عملية، ونحن نريد هذه الدفعة الأولى، وبحاجة إلى هذه البداية المشجعة، ونريد أن نرى الاجتماعات الميدانية للجان في غزة والضفة وقد أسفرت عن شيء ما، أما الاستمرار في الدوران في الفراغ، ولوك الماء، وتكرار المنظومات الكلامية المجوفة نفسها، فهو أمر في غاية القسوة، ويرسب في وعي الناس أن الانقسام قدر عاتي تعجز أمامه إرادة الجميع.

دعونا نرى غدا أو بعد غد أو خلال أيام قليلة، هل تنجح هذه المحاولة؟ دعونا نرى هل يتم تنفيذ هذه المخارج والمبادرات والنوايا الحسنة ولو بحدها الأدنى؟

ندعو الله مخلصين له الدين أن يتم ذلك في أسرع وقت ممكن، أما إذا حدث – لا سمح الله – ما يعيق مجرد تنفيذ هذه المحاولة البسيطة المخلصة، فحينئذ سنعيد طرح السؤال بشكل مدوي، المصالحة في قبضة من؟

وحينئذ، فإن الرئيس أبو مازن والأخ خالد مشعل، لن يكون أمامهما سوى التدخل الحقيقي، والمتابعة التفصيلية على قدم وساق، وإجراء الجراحات الصعبة، لتسليك طريق المصالحة من كل المفاجآت السوداء السلبية، سواء كانت هذه المفاجآت متمثلة في مراكز قوى وأصحاب مصالح ونفوذ، أو متمثلة في عقليات منكفئة على ذاتها المريضة.

المصالحة هي قدرنا الفلسطيني، ويجب أن تكون هذه المصالحة أمانة في قبضة أصحاب القرار الشرعيين.