تجد حركة حماس نفسها في مأزق جديد نتيجة سوء تقديرها الاستراتيجي، وهو خطأ يُضاف إلى خطأها السابق في عملية السابع من أكتوبر. إذ ظنت الحركة أن بإمكانها المناورة سياسياً عبر الانخراط في محادثات مباشرة مع الولايات المتحدة، لكن هذه اللقاءات لم تكن سوى شرك أميركي محكم، الهدف منه ليس إيجاد حل لقضية الأسرى بل تعزيز الموقف الإسرائيلي وإحكام الحصار على المقاومة الفلسطينية.
يكشف إعلان المبعوث الأميركي "ستيف ويتكوف" أن "حماس لم تكن صريحة في المحادثات"، عن نية مبيتة لتوريط الحركة في التزامات لم تكن مستعدة لها، وتصويرها أمام العالم على أنها الطرف المعطّل للحل، مما يعطي إسرائيل غطاءً لمواصلة عدوانها وتصعيد عملياتها في غزة. في الوقت ذاته، تتحرك إدارة دونالد ترامب لدعم إسرائيل عسكرياً عبر تسريع مبيعات الأسلحة، في رسالة واضحة مفادها أن أي حوار مع الولايات المتحدة الأميركية لن يكون لصالح الفلسطينيين، بل مجرد تكتيك لشراء الوقت وتثبيت الوقائع على الأرض لصالح الاحتلال الإسرائيلي.
لم تدرك حماس أن دخولها في المحادثات بشكل منفرد يشكّل اعترافاً ضمنياً بشرعية الوساطة الأميركية الأحادية دون أي ضمانات حقيقية، ما يُضعف الموقف الفلسطيني الموحد ويفتح المجال أمام إسرائيل لاستغلال هذه المحادثات لتبرير عدوانها. وقد تجلّى ذلك في استعداد إسرائيل لاستئناف الحرب على غزة فور تعليق دخول المساعدات الإنسانية وإغلاق المعابر، متذرعة برفض حماس لـ"خطة ويتكوف" لتمديد وقف إطلاق النار.
بالتوازي مع ذلك، صادقت الحكومة الإسرائيلية على استدعاء 400 ألف جندي احتياط، في خطوة تعكس تحضيرات لعمليات عسكرية واسعة. ويعيد هذا الخطأ الاستراتيجي لحركة حماس إلى الأذهان سوء تقديرها في السابع من أكتوبر، حين اعتقدت أنها قادرة على تغيير قواعد اللعبة لصالحها، متجاهلة تعقيدات المشهد الدولي ومتطلبات الإجماع الوطني.
إن الضغط الدولي غير المسبوق على حماس اليوم، بدءاً من المطالبة الأوروبية بتجفيف مواردها ونزع سلاحها، وصولاً إلى تهديد ترامب بإجبارها على مغادرة غزة، ليس مجرد تصعيد عابر، بل خطوة ممنهجة لإعادة ترتيب المشهد الفلسطيني بما يتوافق مع المصالح الأميركية والإسرائيلية، وهذا لن يكون إلا بإخراج حماس من المعادلة أو إخضاعها لشروط تفاوضية مجحفة.
وفي نفس السياق، يدرك الاحتلال أن نجاح القمة العربية الطارئة في صياغة رؤية موحدة لإعادة الإعمار ورفض التهجير، وما يترتب على ذلك من زخم دولي محتمل، يشكل تهديداً حقيقياً لمخططاته. ولذلك، يسعى الاحتلال إلى إفشال هذه المبادرة من خلال شن حملات دعائية وتصعيد ميداني، مدعوماً بتغطية أميركية كاملة.
إن الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق لا يكون إلا بالعودة إلى الإطار الوطني الفلسطيني الجامع، المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية، التي تمتلك الشرعية التاريخية والدولية. وأي محاولة من حماس للمناورة خارج هذا الإطار لن تؤدي إلا إلى مزيدٍ من العزلة والانكشاف السياسي.
الفلسطينيون بأمس الحاجة اليوم إلى استراتيجية موحدة تجمع بين المقاومة المشروعة والعمل السياسي المدروس، وليس إلى قرارات متسرعة توقعهم في أفخاخ سياسية تخدم الاحتلال أكثر مما تخدم القضية الوطنية. وعليه فإن إعادة بناء الموقف الفلسطيني على أسس وطنية جامعة باتت ضرورة لا تحتمل التأجيل، وإلا فإن الفشل في قراءة موازين القوى مجدداً سيكلف الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً، قد يكون أخطر من أي مرحلة سابقة.
الطريق واضح، إما وحدة وطنية تعيد صياغة المشروع الفلسطيني على أسس صحيحة، أو مزيدٍ من التخبط الذي لن يخدم إلا الاحتلال وحلفاءه.