جاء خطاب الرئيس محمود عباس أمام المجلس المركزي الفلسطيني– في دورته الثانية والثلاثين– متأخّراً، لكنه ضروري، بأننا أمام خطر وجودي شامل لا يتهدد الجغرافيا فحسب، بل يُسائل الفكرة الفلسطينية برمّتها. الرئيس تحدث بلغةٍ لم تخلُ من الغضب، لكنها اتسمت أخيراً بوضوح الرؤية تجاه طبيعة المؤامرة: تهجير شامل، تدمير للإنسان، وتصفية للبنية الوطنية. ومع أن الحديث عن "التهجير" و"تصفية القضية" بات مألوفاً، إلا أن ما يميّز الخطاب الأخير هو الإقرار الصريح بأن الصمت والمراوحة السياسية لم تعد تصلح، وأننا بحاجة إلى جذرية وطنية لا تجميل للمواقف ولا ترقيع للأزمات.

واحدة من أهم نقاط الخطاب حين تحدث عن الإنسان الفلسطيني بوصفه خسارة استراتيجية، لا ضحية إنسانية أو رقم في نشرات الأخبار. هذه النقلة في الخطاب– من الشفقة على الضحية إلى إعادة تموضعه كفاعل في المعادلة– تستوجب إعادة بناء المشروع الوطني على أساس الإنسان الفاعل وطنياً وإنسانياً، لا المؤسسة الخاملة. فبقاء الفلسطيني في بيته في غزة والضفة بات اليوم معركة سيادة، والدفاع عن المخيمات بات معركة هوية، وإعادة الإعمار جبهة سياسية ضد التهجير "الناعم". لا يمكن فصل الأمن الوطني عن الأمن الإنساني، ولا يمكن النظر للمعاناة بوصفها حدثاً إعلامياً، بل بوصفها نتيجة مباشرة للقصور السياسي.

المجلس المركزي، في هذا السياق، لا يُنتظر منه أن يُنتج بيان دعم أو أن يُجمّل خطاب الرئيس، بل أن يتحول إلى غرفة طوارئ وطنية، ومعه كل مؤسسات منظمة التحرير والسلطة والفصائل. فالمطلوب: خطة فعل لا خطة نوايا. المطلوب: مواجهة لا مواءمة. المطلوب: تثبيت الإنسان، مقاومة التهجير، وتحشيد كل الموارد السياسية والدبلوماسية والأممية من أجل وقف النزيف الوطني.

وفي هذا التوقيت العصيب، جاءت مقاطعة بعض الفصائل للمجلس كخطوة ناقصة وخارج السياق التاريخي. لا أحد يعارض الإصلاح، لكن الإصلاح لا يتم من على شاشات الإعلام ولا عبر خطابات الواتساب، بل داخل مؤسسات المنظمة، عبر الصراع على الرؤية والموقع والتأثير. من أراد فعلاً إصلاح المنظمة، فليكن حاضراً في مؤسساتها، وليطرح مشروعه وجهاً لوجه، لا من خلف الشاشات؛ لأن الغياب في لحظة القرار لا يُعد موقفاً وطنياً، بل انسحاباً من المسؤولية. في لحظات التحوّل الكبرى، لا يُقاس الانتماء بشعارات النقاء الثوري، بل بالفعل الجريء داخل قاعة المواجهة الوطنية.

ما نحتاجه اليوم ليس قيادة تبحث عن التوازنات الشكلية، بل قيادة تصنع المفاجآت، تواجه الداخل والخارج بالحقيقة، تبني خطابها لا على مجاملة العواصم، بل على مخاطبة الوجدان الفلسطيني الذي تعب من الخطابة، واكتفى من الفصائلية، ويريد فعلاً يوازي الدم، فالشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى وعّاظ وطنيين، بل إلى مفكرين سياسيين لديهم الجرأة على تفكيك الفشل وبناء البديل، ويملكون رؤية تتجاوز إدارة الأزمة إلى اقتحامها بكامل الوعي والخطورة.

قد قال الرئيس كلمة تشبه الحقيقة، وتشبه ضمير الشعب، لكنها ليست كافية. ما يُنقذنا الآن ليس الخطاب، بل تحويل الخطاب إلى خطة، والخطة إلى فعل، والفعل إلى تحصين للناس والبقاء على الأرض. إن ما يجري في غزة والضفة والمخيمات ليس فصلاً من فصول المعاناة فقط، بل مشروع اقتلاع شامل. إذ إننا أمام لحظة مفصلية: إما أن نكون ونؤسس لجمهورية البقاء الفلسطيني، أو أن نُسجّل خروجاً من التاريخ.. بلا عودة.