حتى الآن الحدود التي رسمها الاستعمار في إطار اتفاقية سايكس بيكو، التي وضعتها كل من بريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى عام 1916، لا تزال صامدة بشكل أو آخر، فالعراق لا يزال موجودًا بحدوده، وكذلك سوريا والأردن ولبنان وفلسطين بما يعنيه وعد بلفور. وبالرغم من كل الاهتزازات والمتغيرات الإقليمية، وبعد حرب عالمية ثانية (1939- 1945)، وسلسلة حروب إسرائيلية عربية، وحروب إقليمية وأهلية، ونظام دولي تبدل ثلاث مرات وحدود سايكس بيكو صمدت، ولم يتقرر دوليًا  تغيرها حتى الآن، وهذا بحد ذاته يستدعي التساؤل والتأمل والتحليل العميق.

واللافت أن أغلبية الدول مجزأة وممزقة من الداخل إلى أقليات دينية وعرقية، وطوائف ومذاهب، وهويات فرعية فسيفسائية، ولكن الحدود على الخريطة موجودة، ولا تزال تميز هذا الإقليم عن الآخر. هذا الواقع يقود إلى سؤال: هل كان واضعو خريطة سايكس بيكو يتعمدون أن يضعوا الألغام داخل كل دولة بهدف الإبقاء على هيمنتهم على شعوب المنطقة. أم أن هذا هو واقع المنطقة مهما كانت الحدود والخرائط؟.

من السهل ترجيح أي فرضية، أو أن نركز على نظرية المؤامرة وحدها، ونكتفي بأن كل ما يحدث لنا هو من صنع الاستعمار، والحديث هنا يدور على منطقة شرق البحر المتوسط، التي تنزلت الأديان السماوية الثلاثة فيها وانتشرت في العالم. وقدمت للبشرية تنوعًا حضاريًا وإنجازات، أهمها كتابة اللغة وتحويل الأصوات إلى رموز مكتوبة، ما أتاح للإنسان كتابة وتوثيق أساطيره وتاريخة وإنجازاته.

من دون شك أن خريطة سايكس بيكو، كانت بالأساس نوع من تقاسم النفوذ، استنادًا إلى مصالح إستراتيجية، لكل من بريطانيا وفرنسا، على سبيل المثال كان هم بريطانيا أن تكون لديها طريق مفتوحة للهند، وأن تمتلك حيزًا جغرافيًا يمنحها القدرة على الدفاع عن قناة السويس، التي تحولت إلى أهم ممر مائي تجاري وعسكري. ولكن ومن أجل ضمان المصالح الإستراتيجية، كانت كل من بريطانيا وفرنسا بحاجة لمبررات مباشرة. ولأطراف محلية تعتقد أن الوجود البريطاني أو الفرنسي يشكل حماية لها، لذلك ادعت كل منهما أنها جاءت للمنطقة بهدف حماية أقليات معينة، أو أنها قالت إن لها علاقة ثقافية ودينية فيها.

ولو أخذنا فلسطين مثالاً، وهي المنطقة التي بقيت محل نزاعٍ وعدم اتفاق بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية حتى بعد سايكس بيكو، وبقيت كذلك بعد الحرب العالمية الأولى وخلال المراحل الأولى من مؤتمر الصلح في باريس 1919، فرنسا كانت تدعي أنها صاحبة الحق التاريخي بكل شاطئ من شواطئ الشرق المتوسط، لأنها كانت صاحبة المبادرة في الوصول إلى هذه المنطقة في الحروب الإفرنجية. أما بريطانيا فقد كانت فلسطين بالنسبة لها هي الموقع الأهم في سياق الاستراتيجية، سواء بما يتعلق في الدفاع عن قناة السويس أو الطريق للهند، لذلك لم تجد أمامها إلا المسألة اليهودية، والصهيونية كمخلص للسيطرة على فلسطين، واستحضار الرواية التوراتية لتبرير سيطرتها ونجحت في النهاية من خلال وعد بلفور.

ملخص الكلام أن خريطة سايكس بيكو استقرت في نهاية الأمر من خلال مزواجة المصالح الاستراتيجية، وما تحتاجه هذه المصالح من مبررات محلية، الأقليات الدينية والعرقية والطائف والمذهبية، ولكن من رسم الخرائط هي بالأساس المصالح ولم يكن في اعتبار مصممي الحدود ما قد تخلقه هذه التقسيمات من مشاكل وما تتضمنه من ألغام يمكن أن تنفجر داخل كل دولة في أية لحظة. فالدول الاستعمارية، في نهاية الأمر كانت تدير الأمور ولا تزال بمنطق المصالح الاستراتيجية، أما الألغام الداخلية فيمكن أن تكون مفيدة حسب اللحظة التاريخية والواقع.

وفي الإطار العام نلاحظ أن الحدود التي لا تزال تحدد حدود المصالح بين الدول الكبرى لا تزال صامدة ولكن ما هو داخل الحدود فهو حالة استنزاف للشعوب، وهي حالة محمودة استعماريًا.