شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، تزداد النفوس فيه بالصبر والتقوى، ويغني الصائم رصيده الشخصي الاجتماعي بالعمل الصالح، والتأمل، والتفكير، وإبداع الحلول، ويخضع نفسه لامتحانات، لا بد من النجاح فيها، لأخذها كمعيار للعلاقات الإنسانية، ابتداءً من دائرة العائلة، وصولاً إلى دائرة الناس والطبيعة في الدنيا، حتى المخلوقات، لها حظ ونصيب من جوهر العلاقة، لذلك لا نحسب، شهر رمضان فرصة، لتعمير الموائد، والإثقال على البطون، والتضييق على حركة شرايين وأوردة القلوب، وإنما شهر لتخفيف الحمال الكبيرة على النفوس والأبدان، ومنح الروح الإنسانية فضاء آمنًا، ومسالمًا، وصحيًا بلا حدود، فاحترام النعمة والتدبر منهج قويم، سيدرك المرء عظيم أهميتهما في حياته، بعد تجريبهما خلال الصيام. هذا على الصعيد الشخصي، أما فيما يخص المجتمع الصغير، والكبير، والأكبر (الشعب) فلعلنا نجد في كلمة الرئيس، محمود عباس أبو مازن، التي وجهها للشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية بمناسبة حلول شهر رمضان، ما نقصده في هذا المقام، فقد دعا للتعاون: "للتعاضد بين أبناء الشعب الفلسطيني في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها وطننا وأرضنا"، فتعاضد الشعب أو القوم، يعني: تعاونوا وتناصروا، وهذا حسب اعتقادنا أهم ما يلزمنا في هذه اللحظات التاريخية الفاصلة بين ترسيخ وجودنا، وتكريس حقنا االسرمدي، بأن نكون على أرض وطننا التاريخي والطبيعي، وأعتقد حسب قراءتي المتأنية لمعنى (التعاضد). وكما ورد في تعريفها بالقواميس، أنه يعني الصورة الأسمى لوحدة الشعب، والتآخي، التعاضد الذي يجب أن يجسد رؤانا، وأفكارنا المتحررة من (الأنا) التي تكاد تكون الدسم المسموم، المدسوس في أكلنا وشرابنا، وسلوكنا اليومي، الفردي والاجتماعي، والجمعي (السياسي)، فالتعاضد ليس بمشاركة الميسور والغني للفقير، بالصدقة والزكاة وحسب، بل بإكرام الذات بتبني القيم والأفكار والأعمال التي تشد أوزار شعبنا، بعضها ببعض، فالفقير والمسكين، والمنكوب، والنازح اليوم، يحتاجون لرؤية التعاضد فعلاً وعملاً، كحاجتهم لقوت أطفالهم، فالتعاضد مبعث أمل، مهما بلغ ركام الشدائد والمصائب، فالروح تستمد طاقتها من الإيمان، أما الأمل فيولد من رحم الواقع. ولنا أن نتخيل ما سيكون عليه واقعنا، عندما يصبح توليد الأمل بالحياة العزيزة الكريمة، بطاقة الولاء والانتماء للوطن، والالتزام بالقيم الأخلاقية الإنسانية، والمبادئ الوطنية أهم ما ننتجه في وطننا، فكل الصناعات ستبقى مجرد مكاسب شخصية، إلا صناعة الأمل بالتعاضد، فإنها تبقى المعيار الحقيقي لقياس قربنا أو بعدنا، وقياس ارتباطنا أو انقطاعنا عن الجذور الحضارية الإنسانية، التي نفخر بغنى وطننا بعروقها الضاربة في عمق التاريخ، والتي نحييها بتمسكنا بالحياة على أرضنا وتجسيد السلام على أرضها.
لا ينفع صومنا عن الأكل والشراب، ما دام البعض يصوم عن تفعيل نعمة العقل، وتقوى الله بالتعقل، فالتراحم والتعاضد يعنيان رؤية الصالح العام ببصيرة المؤمن، والالتقاء بدون تردد مع الأفكار الخلاقة، القادر أصحابها على إنقاذ المواطن فقيرًا كان أو غنيًا من الغرق في بحر الأحزان، والدمار والموت المجاني، فالمعنى الأرقى والأسمى للتعاضد يعني تعزيز معاني عشق المواطن للوطن، ولا يصبح الأمر بمثابة عقيدة، ما لم ير الأمل إنجازات كالمنارات، أينما جال ببصره، وحيثما التمس الحقائق المادية على أرض وطنه، أما الخطر الأكبر على ثقافتنا الإنسانية، الاكتفاء بمظاهر الاحتفاء، دون بلوغ الحكمة من الصيام في هذا الشهر، ودون تلبية نداء السلام داخل كل واحد منا، فالصيام بوابة الإنسان للسلام مع ذاته ومع الناس في الدنيا، والأقربون أولى.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها