بالاستعداد لليوم التالي للإبادة الجماعية الإسرائيلية الأميركية على الشعب العربي الفلسطيني، جرى التداول خلال الشهرين الأخيرين بين ممثلي الإدارة الأميركية وبريطانيا وإسرائيل وعدد من الدول العربية لترتيب الوضع في الساحة الفلسطينية عمومًا وقطاع غزة خصوصًا بما يحقق مصالح إسرائيل السياسية والأمنية، وبالضرورة مصالحهم، وتم تبادل المشاريع والاقتراحات بينهم، وتجلت أفكارهم في خلق إدارة محلية أو مختلطة يكون دور السلطة الفلسطينية ورئيسها وحكومتها، حتى بعد تغيير مركباتها هامشيًا ورمزيًا وغير ذات شأن، تحت مسمى اللجنة الإدارية لإدارة قطاع غزة، أو مؤخرًا أطلقوا عليها لجنة الإسناد المجتمعي، واللجنة الإدارية الإماراتية، ومشروع لجنة إدارية أميركية إماراتية إسرائيلية، وغيرها من المسميات، والتي جميعها تقف خلفها الإدارة الأميركية وإسرائيل ومن يدور في فلكهم من عرب الأنظمة الرسمية، وسعى البعض لأن يلبس ثوبًا قوميًا مغايرًا لعباءته لتمرير البضاعة غير المرحب بها، لا بل والمرفوضة.

وهذه اللجان المثلومة فاقدة الرصيد السياسي والأمني والقانوني والجدارة، هي بالأساس عبارة عن لغم كبير شاءت إدارة بايدن عشية رحيلها عن المشهد السياسي زرع أحد نماذجها في التربة السياسية والاجتماعية والقانونية والأمنية الفلسطينية لتحقيق جملة الأهداف المشبوهة، أولاً سحب البساط من تحت أقدام سيادة الرئيس محمود عباس شخصيًا، وإبعاده عن مركز القرار بكل مستوياته، أو إبقائه رمزيًا رئيسُا بلا رئاسة، ثانيًا تهميش دور منظمة التحرير ودولة فلسطين وحكومتها، وتقزيم دورها في تحمل مسؤوليتها في قطاع غزة، مع منحها دورًا رمزيًا للضحك على الدقون الفلسطينية؛ ثالثًا حجب وعزل الدولة والحكومة عن ولايتها الشرعية على القطاع، الجزء الأصيل من الدولة الفلسطينية، وخلق أداة بديلة بمرسوم رئاسي وحاضنة فلسطينية وهمية؛ رابعًا تشكيل حكومة فلسطينية مغايرة لتنفيذ مآرب الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم من العرب؛ خامسًا إعادة فك وتركيب المنظومة السياسية الفلسطينية ونزع الدسم الوطني عنها، وهيكلتها وفق معايرهم المتناقضة مع المصالح الوطنية.
في خضم هذه الأجواء، عادت دورة اللقاءات بين حركتي "فتح وحماس" في القاهرة خلال الشهر الماضي، حيث شهد يومي الجمعة والسبت الماضيين 1 و2 تشرين ثاني/نوفمبر الحالي الجولة الثانية من حوار الطرشان برعاية مصرية، تميزت الجولة الأخيرة بوجود رئيس جديد لجهاز المخابرات المصرية، والذي بالضرورة سيكون له بصمته، مع أن الفريق المختص والمسؤول عن الملف الفلسطيني هو ذاته، بيد أن المشكلة ليست في الراعي المصري، إنما في خلفيات الطرفين الفلسطينيين المركزيين في الساحة، وتحديدًا حتى أكون منسجمًا مع نفسي ونتاج متابعتي ملف المصالحة الوطنية منذ ما بعد الانقلاب الأسود على الشرعية أواسط عام 2007 في مواقف قيادات حركة حماس المتعاقبة على ملف اللقاءات والحوارات الفلسطينية، الذين وضعوا العصي في دواليب الاتفاقات المبرمة بين الطرفين، وبين الكل الفلسطيني. ورغم تمنياتي في ظل الإبادة الجماعية على أبناء الشعب طيلة 397 يومًا بإحداث اختراق في جدار الاستعصاء الحمساوي، إلا أنها ذهبت أدراج الريح، ولم ينجم عن الجولة الأخيرة أي بارقة أمل، مع أن بعض مصادر حماس نشرت على العديد من مواقع التواصل الاجتماعي شذرات من التفاؤل، بوجود تقدم ما.

ولكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، وتعود الأسباب لتعنت وفد حركة حماس في الحوار، حسب مصادر عليمة بمجريات النقاش، ولا أعرف إن كان المتابعين لأجواء الاجتماعات الثنائية يعلمون، بأن وفد فرع جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين كان طيلة الحوار في الجولة الأولى متمسك بضرورة تشكيل حكومة توافق وطني، وفي الساعة الأخيرة انقلب 180درجة على موقفه، ووافق على تشكيل لجنة إدارية، بيد أن الوفدين لم يتوصلا لأية نتائج جدية تذكر، سوى عودتهما لقياداتهما في المركز في فلسطين وقطر. وفي الجولة الثانية قبل ثلاثة أيام وافق الوفد الحمساوي على أن يتم تشكيل لجنة الاسناد المجتمعي بمرسوم رئاسي من قبل الرئيس أبو مازن، غير أن اللجنة المذكورة لا تخضع للحكومة الفلسطينية، وتكون مرجعيتها الفصائل الفلسطينية، أي أنها إطارًا موازيًا للحكومة والسلطة عمومًا، وبالتالي بددت عمليًا إمكانية التقدم في إحداث اختراق، وهو ما يعني التساوق الضمني مع الرؤية المتناقضة مع المصالح الوطنية، والالتفاف على المرجعيات الوطنية، أي منظمة التحرير الفلسطينية والدولة والحكومة، والتشكيك بولايتها الأساسية على القطاع وكل محافظات الوطن والدولة، وعادت الحوارات لنقطة الصفر. إضافة لذلك، تم الإدلاء ببعض المواقف التحريضية على قيادة حركة فتح، في تناقض واضح ما نشرته مصادر أخرى منها تشي بالتفاؤل، وحتى أنها رفضت تشكيل وفد مشترك بقيادة المنظمة لإدارة المفاوضات مع العدو الإسرائيلي والوسطاء بشأن إبرام صفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب الجهنمية على قطاع غزة وإدخال المساعدات الإنسانية كافة والانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع ومتابعة ملف الإعمار.

وأعتقد أيضًا، أن وفد حركة فتح لم يحمل موقفًا محددًا بالرفض المبدئي لتشكيل أي لجنة، بغض النظر عن اسمها، والتمسك بدور ومكانة الحكومة صاحبة الولاية الأساسية على قطاع غزة، بعيدًا عما يرغب به الوفد المصري الراعي للحوار، أو حركة حماس. لأن الأساس وفق برنامج الرئيس عباس الذي طرحه في كلمته في الأمم المتحدة في 26 أيلول/سبتمبر الماضي، وهي بدورها التي تشكل اللجنة التي تريدها بالتوافق مع حركة حماس والقوى السياسية الفلسطينية الشريكة في الدفاع عن المصالح الوطنية، ولقطع الطريق على اهداف واشنطن وتل أبيب ومن يدور في فلكهم.
وبذلك أدى الحوار إلى الفشل مجددًا، ومن الواضح أن حركة حماس لم تستخلص دروس وعبر الإبادة الجماعية، وما زالت تعتقد أنها صاحبة القول الفصل في القطاع، وما زالت متمسكة بخيار الانقلاب وفصل القطاع عن الضفة بما فيها القدس العاصمة الفلسطينية، مع أن قياداتها المختلفة تعلم أن الشارع الفلسطيني في القطاع بات بعيدًا عنها، ويرفض إدارتها للعملية التفاوضية وسياساتها كافةً، التي تنتهجها تجاه الشعب في المحافظات الجنوبية.