أ-د/ إبراهيم أبراش
قبل سنوات كانت مواجهة الاحتلال بكل أشكال المقاومة سواء داخل فلسطين أو خارجها تتصدر نشرات الأخبار العربية والعالمية وتشغل الحيز الأكبر من أي حديث عن القضية الفلسطينية وتطوراتها وكان اسم فلسطين والفلسطينيين يقترن أينما يرد في وسائل الإعلام بالبطولة والنضال والتضحية . صحيح، إن الخلافات الفلسطينية الداخلية أو الخلافات الفلسطينية مع المحيط العربي كانت موجودة دوما ، إلا أنها كانت لا تؤثر على اتجاه البوصلة نحو مواجهة الاحتلال ولا تغير من مركزية القضية الفلسطينية وأولويات الفلسطينيين . أما اليوم فإن ورد أي خبر في وسائل الإعلام عن القضية الفلسطينية فيرد في آخر نشرات الأخبار وغالبا يتناول المشاكل الفلسطينية الداخلية كالانقسام وتعثر المصالحة والحصار،أو بإشكالات العلاقات الفلسطينية مع دول الجوار والأجندة العربية والإسلامية ، أما المقاومة والمشروع الوطني التحرري فتأتي في آخر الاهتمامات ، والعلاقات الوحيدة التي تربط السلطة والمنظمة وفصائلها بالاحتلال هي المفاوضات المتعثرة والعبثية فقط ، دون تجاهل بعض أشكال المقاومة الشعبية المحدودة.
أما بالنسبة للمواطن العادي فبالرغم من قوة أيمانه بعدالة قضيته وتمسكه بحقوقه الوطنية إلا أن هذه الأمور ثانوية في خلفية تفكيره وضميره الوطني و ليست اليوم من أولوياته. بات المواطن يخضع (لإستراتيجية الإلهاء) التي تُشغله بهموم الحياة اليومية وتبعده عن التفرغ لقضيته الوطنية ، ويخضع لثقافة الخوف التي تسيطر على كل تفكيره وتشل كل ممكنات الإبداع : خوف على أمنه الشخصي ومستقبل أبنائه ،وخوف على أرضه وممتلكاته من الاستيطان ، وخوف على راتبه ، والخوف من الحصار والانقسام وتداعياتهما الخ .
إن أردنا الحديث عن الواقع الفلسطيني الحالي وآفاقه من خلال أهم عناوين هذه المحاضرة : المفاوضات ، الوضع في غزة وعلاقته بما يجري في مصر، الانقسام والمصالحة، المقاومة ، فهو كما يلي :
أولا : بالنسبة للمفاوضات مع الإسرائيليين
بالرغم من مرور عشرين عاما على المفاوضات التي بدأت مع اتفاق أوسلو 1993 ، إلا أن أوضاع الفلسطينيين تزداد سوءا ،وكأن هذه المفاوضات ستار يخفي الممارسات الإسرائيلية العدوانية ، سواء في الضفة من خلال الاستيطان واستمرار الاحتلال ، أو في قطاع غزة من خلال العدوان العسكري المتكرر والحصار ، وكانت مقترحات كيري الأخيرة حول الحل الأمني والاقتصادي المؤقت التي يستثني قطاع غزة ويتجاهل الحقوق السياسية الفلسطينية وخصوصا حقهم في دولة مستقلة على كامل حدود 1967 وحل عادل لقضية أللاجئين آخر فصول المفاوضات المأساوية ، ومع أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ترفض هذه المقترحات حتى الآن إلا أن المفاوضات ما زالت جارية ، وستواصل واشنطن ممارسة عمليات الضغط والابتزاز على الرئيس أبو مازن حتى لا تفشل المفاوضات .
من حيث المبدأ ليست المشكلة في وجود مفاوضات لأن لا سياسة بدون مفاوضات ، فما دامت منظمة التحرير قبلت مبدأ التسوية السياسية فعليها قبول العملية التفاوضية لأن التسوية محصلة المفاوضات. ولكن
المشكلة تكمن في غياب المرجعية للمفاوضات وضعف المفاوض الفلسطيني الذي يفاوض دون قوة تسنده على الأرض ، بل إن منظمة التحرير نفسها لم توافق على العودة الأخيرة للمفاوضات .
المفاوض الفلسطيني يفاوض من موقع الضعف ومُكره على الاستمرار بالمفاوضات حتى لا يتوقف تمويل السلطة و حتى لا تتضرر مصالح النخبة السياسية الحاكمة ، ولأن المنظمة والسلطة ليس عندهما بديل عن المفاوضات . أما المفاوضون الإسرائيليون فيفاوضون ومن ورائهم دولة قوية وجيش قوي ومجتمع إسرائيلي موحد ومتفق على الموقف من التسوية ومن الفلسطينيين ، وهم يفاوضون كسبا للوقت وحتى يستمروا في عمليات الاستيطان ، بمعنى أنهم يوظفون المفاوضات كستار يخفي عملية الاستيطان .
ونعتقد أنه في ظل حالة الانقسام الفلسطينية وتوقف المقاومة بكل أشكالها تقريبا سواء في الضفة أو قطاع غزة ، وفي ظل التحالف الاستراتيجي بين تل أبيب وواشنطن ، وغياب شبكة تحالفات إقليمية ودولية تدعم المفاوضين الفلسطينيين ، فإن المفاوضات الجارية ستكون مضيعة للوقت الفلسطيني وهو الوقت الذي توظفه إسرائيل لمزيد من الاستيطان ، وهو ما يتطلب وقفة فلسطينية لإعادة النظر ليس فقط بالمفاوضات بل وبمجمل النظام السياسي الفلسطيني ، ففي ظل استمرار الأمور على حالها وخصوصا غياب وتوقف المقاومة حتى في ومن قطاع غزة فلن يكون أمام المنظمة والسلطة بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات .
ثانيا : بالنسبة لقطاع غزة وعلاقته بمصر
الأوضاع في قطاع غزة وعلاقة القطاع بما يجري في مصر استحوذت على اهتمام لا يقل عن الاهتمام بالمفاوضات . فلأن هناك مخططاً موضوعاً منذ سنوات لفصل غزة عن الضفة وعن المشروع الوطني ، ولأن غزة مهد الوطنية الفلسطينية ولأن المواطنين الفلسطينيين في غزة متمسكون بفلسطينيتهم ... فستعمل الأطراف المعنية بفصل غزة عن الضفة وعن المشروع الوطني بخلق ظروف قاسية وصعبة قد تدفع في رأيهم المواطنين للانفجار أو القبول أية تسوية أو مخرج ولو من خلال دولة غزة أو إلحاق غزة إداريا وعسكريا بمصر. ونتخوف من أن تسير الأوضاع في قطاع غزة نحو مزيد من السوء على كافة المستويات ،كما نتخوف من أيام صعبة اقتصاديا وامنيا قد تصل لتصفيات جسدية سياسية بين الفلسطينيين.
قبل ثورة 25 يناير 2011 في مصر كان الجزء الأكبر من أي حديث عن قطاع غزة سواء من حيث الانقسام والمصالحة أو من حيث الحصار يقتصر على علاقة قطاع غزة بالسلطة وبالضفة الغربية وبإسرائيل ،وكانت إسرائيل هي المتهم الأول باستمرار الحصار وباستمرار الانقسام ، أما اليوم فتتم عملية ربط مشاكل قطاع غزة بمصر ، فحركة حماس الحاكمة في القطاع تُحمل مصر مسؤولية كبيرة عن تردي الأوضاع في القطاع ،وفي المقابل يتهم النظام القائم في مصر حركة حماس وحكومتها بتأييد جماعة الإخوان المسلمين في مصر بل وتقديم الدعم المادي والعسكري لهم في مواجهة النظام ،والأخطر من ذلك أن توتر العلاقة بين النظام المصري وحركة حماس ترك تداعيات شعبية حيث تم تعبئة الشعب المصري ضد الفلسطينيين بشكل عام وليس في مواجهة حركة حماس فقط .
هناك علاقة شائكة بين قطاع غزة ومصر ، فجغرافيا وتاريخيا هناك علاقة بين الطرفين، ومصر تعتبر قطاع غزة جزءا من أمنها القومي ، كما أن حركة حماس الحاكمة في قطاع غزة جزء من جماعة الإخوان المسلمين الذين يقاتلهم النظام المصري ، وبالتالي من الطبيعي أن يؤيدوا جماعة الإخوان ولو من باب رد الجميل، ولكن قطاع غزة في نفس الوقت ما زال جزءا من أراضي السلطة الفلسطينية برئاسة الرئيس أبو مازن ، وما زال أرض محتلة مثله مثل الضفة الغربية ، أيضا هناك علاقات قديمة بين حركة حماس وجماعات سلفية في قطاع غزة و الجماعات التي تقاتل النظام المصري في سيناء ، كما أن وجود الأنفاق قد يُسهل تنقل السلاح والمقاتلين بين الجهتين .
إن كان الحصار والمصالحة سابقا يتوقفان على الشروط الإسرائيلية فإنهما اليوم يتوقفان على الشروط المصرية . مع كل انتقاداتنا لحركة حماس ومعارضتنا لها سياسيا وإيديولوجيا إلا أن هناك جهات أمنية وإعلامية مصرية تضخم دور قطاع غزة وحماس في ما يجري في سيناء لأهداف مصرية داخلية كتضخيم القول بوجود مؤامرة خارجية على مصر ،أو لتبرير استمرار النظام الجديد في الحفاظ على علاقاته مع إسرائيل. ويبدو أن فلسطينيي قطاع غزة والفلسطينيين بشكل عام يدفعون ثمن الربيع العربي وتداعياته السلبية ، وغالبية تداعياته سلبية للأسف حتى على الأوضاع العربية الداخلية.
ثالثا : بالنسبة للمصالحة وإنهاء الانقسام
يبدو أن الدفع نحو المصالحة تراجع كثيرا و لم يعد شأن المصالحة له الأولوية وكأن حالة من التكيف القسري سيطرت على المواطنين وبالإضافة إلى الانشغالات الحياتية اليومية ، ولكن على المستوى السياسي الاستراتيجي وحتى نعرف لماذا استمر الانقسام لأكثر من سبعة أعوام؟ ولماذا تتعثر كل جهود المصالحة ؟ علينا العودة لأسباب الانقسام والفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية ، حيث لم يكن ما جرى سببه فقط الخلاف بين حركتي فتح وحماس ، صحيح أن هذا الخلاف سبب ولكنه ليس السبب الرئيس ، فما جرى بدأ أصلا بانسحاب شارون من غزة عام 2005 وهو مخطط وضعته إسرائيل وشاركت فيه أطراف عربية ودولية وفلسطينية مشاركة فعلية أو بالتواطؤ والصمت ،ولذا فإن المصالحة التي تعني إعادة توحيد غزة والضفة في سلطة وحكومة واحدة يحتاج لإفشال هذا المخطط ، ولان كانت إسرائيل مستفيدة من عملية الفصل الا ان هناك نخباً فلسطينية مستفيدة أيضا فإن الانقسام سيستمر طويلا لفترة من الزمن، وعملية صناعة الانقسام وتعزيزه تجري بخطوات حثيثة من عدة أطراف ، وقد سمعنا قبل أيام الرئيس الأمريكي اوباما يتحدث عن تسوية في الضفة تستثني قطاع غزة ،بالإضافة إلى ما يروج من توصيات مقدمة للاتحاد الأوروبي لقطاع تمويل مرتبات موظفي قطاع غزة .
لم تعد مسألة توحيد غزة والضفة مرتهنة بمصالحة حركتي فتح وحماس بل مرتهنة أيضا بشروط إسرائيلية وشروط الرباعية وشروط مصرية ، فإن في إمكان الفلسطينيين إنجاز مصالحة فلسطينية على قاعدة إعادة بناء وتفعيل المشروع الوطني الفلسطيني كمشروع تحرر وطني من خلال مداخل تتعالى وتتجاوز حسابات الحكومة والسلطة والصراع على المصالح الحزبية ، وهذا يكون من خلال مصالحة وطنية مدخلها الانتفاضة ضد الاحتلال في غزة والضفة ، أو من بوابة إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير بعيدا عن حسابات الصراع على السلطة والحكم ، أو من بوابة المصالحة الاجتماعية . ولكن ما نخشاه أن مأزق وفشل الحكومتين والسلطتين في الضفة وغزة سيدفعهما للتوافق على مصالحة إدارة الانقسام أو مصالحة بقاء الأمور على حالها .
وخلاصة القول ، فإن ما نخشاه أن تتجه الأمور نحو تكريس الانقسام وربط غزة بمصر بعد حين من الزمن في إطار علاقات مذلة للفلسطينيين ، وقد يسبق ذلك خلق أوضاع في غزة شبيهة لتلك التي جرت في مصر قبل إسقاط الرئيس مرسي،وفي الضفة ستستمر إسرائيل في الاستيطان وستوظف تسوية سيفرضها الأمريكيون على الفلسطينيين لإطالة عمر المفاوضات وبالتالي عمر الاستيطان،وسيستمر تآكل الدور الوطني للسلطة الوطنية في الضفة لتصبح شبيهة بروابط القرى أو البلدية الكبيرة ، وستدفع إسرائيل الأمور نحو نقل المواجهة إلى قطاع غزة ليتصارع الفلسطينيون حول من يحكم قطاع غزة .
عندما تصل الأوضاع لدرجة لا يمكن تحملها فإن الشعب سيسعى للخروج من المأزق وسينفجر في وجه من يهين كرامته ويعتبره مسؤولا عن تدمير آماله وطموحاته بالحرية والاستقلال ، وحينها لن تقف أية قوة في مواجهة الشعب،وتاريخ الشعب الفلسطيني مليء بالمفاجآت حيث كما شبهه الراحل أبو عمار كطائر الفينيق يخرج من تحت الرماد بعد أن يظن البعض انه استكان واستسلم .
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها