بقلم: رفعت شناعة
عندما تأسست الخلايا الأولى لحركة فتح في أواخر الخمسينات كان الشعب الفلسطيني يدفع ثمن المؤامرة الامبريالية الصهيونية المعززة بالتواطؤ العربي الرسمي مرتين، الاقتلاع من الارض أولاً، وسياسة تدجين الارادة الوطنية عند شعبنا المشتت في مخيمات اللجوء من قبل الأنظمة العربية الرسمية آنذاك للحؤول دون بروز عوامل تثوير للواقع الفلسطيني تساعده على النهوض من مستنقع الضياع، واللجوء، والاحباط إلى واقع التحدي، والتغيير، والتأسيس والانطلاق نحو مستقبل موعود يحمل تباشير استعادة الحضور الكفاحي الوطني، وبلورة الكيان الفلسطيني، وتجسيد الهوية الفلسطينية.
عملية التأسيس والانطلاق والتمرد على الواقع المؤلم كانت معركة الارادات، والقناعات الراسخة بإحداث عملية التغيير الجذري، وفرض الحقيقة الكبرى، حقيقة انطلاقة المارد الفلسطيني من القمقم لإعادة صناعة التاريخ الفلسطيني، وتحقيق الانجازات الوطنية، وشق طريق شعبنا الأصيل نحو الحرية والاستقلال والدولة الفلسطينية متمسكين بثوابتنا الوطنية.
إنطلاقة حركة فتح العام 1965 كانت حدثاً تاريخياً بارزاً في مسيرة شعبنا الفلسطيني الوطنية، كما كانت له تأثيراته وانعكاساته الثورية على مجمل حركات التحرر العالمية، حيث ارتبطت حركاتُ الشعوب المكافحة بقيادة حركة فتح عبر الشهيد الرمز ياسر عرفات والشهيد القائد أبو جهاد الوزير اللذين كان لهما باعٌ طويل في دعم ومساندة هذه الحركات، لنيل الاستقلال والحرية إيماناً منَّا بأن انتصار هذه الحركات، وهذه الشعوب المعادية للاستعمار وللحركة الصهيونية هو انتصار لفلسطين وقضيتها العادلة، فنحن جزء لا يتجزأ من حركات التحرر العالمية.
إستطاعت حركة فتح من خلال قيادتها التاريخية أن تشكل حركة طليعية عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً ومؤسساتياً، ونجحت في تحقيق الانجازات الوطنية على مختلف الأصعدة، وشكّلت بحقٍ العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأثبتت في مختلف المراحل أنها الاكثر وفاءً لدورها المرسوم فلسطينياً رغم الصعوبات، والمعيقات، والتحديات، وفي الظروف الاكثر تعقيداً حافظت حركة فتح على تماسكها الداخلي، وعلى قرارها المستقل، وعلى حماية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، والعمل باستمرار على انجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية. فالاجتياح الاسرائيلي الذي كان مقرراً له أن يدمر مؤسسات ووجود "م.ت.ف" في لبنان حدث،ودمَّر، وحاصر جنوب لبنان حتى بيروت موقعاً الآلاف من الشهداء والجرحى، إلاّ أنّ صمود الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية لمدة ثلاثة أشهر في بيروت، ثم خروج المقاتلين منه يحملون البنادق والاعلام الفلسطينية كان إعلاناً بأن الثورة مستمرة. كما أنَّ الانشقاق في حركة فتح على قسوته لم يستطع تدمير بنية الحركة، ولا تقزيم دورها الطليعي على الصعيد الفلسطيني، والدليل على ذلك كان الدور المميز والرائع لحركة فتح في قيادة الانتفاضة الأولى، إنتفاضة جنرالات الحجارة التي هندسها الشهيد أبو جهاد الوزير.
وعندما إنهار الاتحاد السوفياتي وتفكك في العام 1989، واشتعلت حرب الخليج، وتسيَّدت الولايات المتحدة على القرار الدولي، وأصبحت القطب الأوحد، وكانت الانظمة العربية تسعى لإيجاد تكتلات وتحالفات تضمن أمنها الوطني ومصالحها الاقتصادية على حساب المصالح القومية، مع التخلي عن دعم القضية الفلسطينية، وتجاهُل دورها في مؤتمر مدريد، عندما حصل ذلك كله اختار الشهيد الرمز ياسر عرفات الذهاب إلى أرض الوطن، إلى ساحة الصراع اليومية بعيداً عن الضغوطات وعمليات الابتزاز حفاظاً على القرار الفلسطيني المستقل، ولضمان استمرار الصراع ضد الاحتلال.
ما تقدم يوضح بشكل موضوعي منهجية حركة فتح التي تعتمد على الواقعية ولا تتخلى عن الثوابت الوطنية التي تكرّست في المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات الفلسطينية المشتركة، تسمح لنفسها بقسط من المرونة للخروج من عنق الزجاجة في الأزمات الحادة، لكنها تلتزم الضوابط المبدئية التي ألزمت نفسها بها منذ البداية.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن وبعد انقضاء تسعة شهور من المفاوضات هو ما العمل؟
الإجابة يجب أن تكون شافية، وقادرة على تمكين الشعب الفلسطيني للخروج من المأزق الحالي، وفتح آفاقٍ جديدة تسمحُ بصناعة معادلات جديدة يمكن البناء عليها لرسم ملامح مستقبل الصراع ضد الاحتلال من الموقع الأصلب والأوضح والاقدر على تحقيق الأهداف المرجوة.
قبل الاجابة على السؤال فإن الضرورة تفرض علينا قراءة المُناخات والمعادلات السياسية الحالية المحيطة بقضيتنا الفلسطينية.
إنّ الأحداث التي تعيشها الاقطار العربية التي تشكّل استنزافاً حاداً ومتواصلاً لقدرات وطاقات هذه الأمة أفقدت الثورة الفلسطينية في هذه المرحلة الخطيرة سنداً أساسياً كان المفترض منه أن يؤدي دوراً مميزاً قياساً مع ما تقدمه الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي لإسرائيل، ونستطيع القول أننا نخوض المواجهة ضد الاحتلال الإسرائيلي مكشوفين ودون غطاء عربي حقيقي على أرض الواقع، ولذلك لا نستغرب التراجع الحاصل بالنسبة للقضية الفلسطينية على صعيد الإهتمام العربي.
العامل الثاني: هو أن العدو الإسرائيلي يعيش أفضل أوضاعه، ويُصعِّد من إجراءاته الاستيطانية، والعسكرية، والأمنية، والاقتلاعية، والتدميرية دون أي رادع، وهو ينفّذ ما يقرره على أراضي الدولة الفلسطينية، ويجري التغييرات الديموغرافية التي تنسجم مع المخططات المرسومة في القدس بشكل خاص والضفة بشكل عام.
وهذا التصعيد وصل إلى حد نسف كل ما تمّ الاتفاق عليه سابقاً في أوسلو وغيرها، وذلك لوضع القيادة الفلسطينية أمام خيارات صعبة تقود بالتالي إلى تصفية القضية الفلسطينية. وما يدل على ذلك بوضوح المواقف الإسرائيلية التالية:
1- مطالبة الجانب الفلسطيني الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية وهذا ما يؤدي إلى نسف حق العودة من جهة، وإلى طرد الفلسطينيين في أراضي الثمانية وأربعين.
2- الاصرار الإسرائيلي على أن القدس الموحدة عاصمة "دولة إسرائيل"، متجاهلةً مشاعر الامتين العربية والاسلامية والمسيحية.
3- الاصرار الاسرائيلي على التواجد هناك في منطقة الاغوار على الحدود مع الاردن حفاظاً على أمنها علماً أن "إسرائيل" تهدد دول المنطقة برمتها.
4- الكيان الاسرائيلي يستبيح كل ما هو موجود على الاراضي الفلسطينية ولا يتردد في قتل الابرياء، وتدمير بيوتهم، وسرقة مائهم وأرضهم، وتقطيع أشجارهم، والعبث بمزروعاتهم، والعدو يستخدم المستوطنين الحاقدين لتنفيذ هذه المهمات الإجرامية إلى جانبهم.
5- رغم الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية عضواً مراقباً على الاراضي المحتلة في 4/6/1967 إلاً أنّ المحتل الإسرائيلي لا يعترف بهذه الحدود ويتصرف بها كأنها أرض إسرائيلية.
6- إنّ الحصار المالي المفروض على السلطة الوطنية والذي وصل إلى مرحلة تجويع الشعب الفلسطيني، وتدمير اقتصاده الوطني، والوصول بالسلطة إلى حافة الانهيار، كل ذلك يتم من أجل تركيع الشعب الفلسطيني وقيادته ولا ينسى أن الحصار المالي كان يتم بقرار أميركي ويشارك فيه بقوة الإحتلال الاسرائيلي الذي يسرق أموالنا، وغالبية الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة. ورغم قسوة الحصار المالي والاقتصادي فإن القيادة الفلسطينية لم تخضع ولم تركع.
أمام كل ما يجري ما هو المطلوب فلسطينياً في مرحلة ما بعد الشهور التسعة من المفاوضات؟
أولاً: نحن في حركة "فتح" ومن مدرستها تعلمنا أن الوحدة الوطنية هي العامل الأساسي والجوهري في حسم الصراع ضد الاحتلال، ولذلك وضعنا كل ثقلنا في كفة إنهاء الانقسام ولو على حسابنا، من أجل المصالحة وعقد راية الوحدة الوطنية، وهذه قناعة راسخة لدينا، وطبقنا ذلك عملياً منذ البداية، فرغم قساوة الانقلاب الذي قاد إلى الانقسام لكننا رفضنا القيام بأعمال عنف عسكرية، وتحمَّل قادتنا وكوادرنا وعناصرنا في قطاع غزة الأمرَّين في المعتقلات هناك. كما سعينا باستمرار لتلبية الجهود المبذولة عربياً وفلسطينياً لانجاز المصالحة، وأبدينا حسن النية باستمرار رغم معرفتنا بكافة العراقيل التي توضع أمام عجلة المصالحة، ورغم هذه الايجابية المطلقة من قبل حركة "فتح" ظلت بعض الفصائل وبشكل ظالم تقول "طرفا الانقسام"؟!
ثانياً: سواء تم إنهاء الانقسام أو لم يتم فإن حركة "فتح" بثقلها التنظيمي، وأصالتها الوطنية، ورصيدها الثوري معنية بتصعيد المقاومة الشعبية في مختلف أنحاء الوطن ضد الاحتلال الإسرائيلي، والمبادرة الحركية الميدانية ستدفع الجميع إلى الالتحاق كما حصل في الانتفاضة الثانية، وكما هو واضح فإن العملية السياسية عجزت عن صناعة عملية السلام، ولذلك لم يعد أمام القوى الوطنية برمتها إلاَّ الانخراط الكامل في مقاومة الاحتلال لقلب المعادلات، وتغيير الواقع، والنهوض بالبرنامج الوطني. وحركة فتح قادرة على قيادة هذه المرحلة، وعبر قيادة هذا النمط من المقاومة تستطيع تصليب أوضاعها الداخلية، واستقطاب الشرائح الاجتماعية لصناعة واقع جديد يقضُّ مضاجع الاحتلال.
ولا شك أنَّ البدايات الحالية للمقاومة الشعبية التي رأيناها في بلعين ونعلين والنبي صالح والمعصرة، وفي الخليل وقلقيلية، وبيت لحم ونابلس، وفي أحياء القدس وطولكرم، وفي قُصرة وجالود وقريوت، والقرى المستحدثة وفي مقدمتها قرية باب الشمس، هذه بدايات يمكن البناء عليها، بل يجب البناء عليها، وليس أمام فتح إلا أن تبني عليها.
ثالثاً: على حركة "فتح" أن تدفع باتجاه الانتساب إلى المؤسسات الدولية لاستنفارها حتى تتحمل مسؤولياتها الإنسانية والسياسية والقانونية كاملة باتجاه ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من انتهاك لحق تقرير المصير، ومن اعتداءات يومية في الضفة والقدس وقطاع غزة، وليس أمام دول العالم التي مارست ضغوطاً علينا للعودة إلى المفاوضات، هذه المفاوضات التي أجهضتها إسرائيل التطرف والعنصرية وبدعم أميركي واضح لها من خلال عدم ممارسة أية ضغوطات على الاحتلال الإسرائيلي، وإنما بالعكس تماماً كانت تقف دائماً إلى جانب الكيان الإسرائيلي، وتبحث له عن مخارج على حساب القضية الفلسطينية. لنا دين كبير على دول العالم وخاصة الاتحاد الأوروبي وهذا يستوجب الوقفة الصادقة لهذه الدولة إلى جانب دولة فلسطين حتى نتمكن من خوض معركة الأسرى، والقدس، واللاجئين بقوة الحق الفلسطيني.
هذه قضايا جوهرية ثلاث لا بد من وضعها موضع التنفيذ، وعلى حركة فتح أن تخوض معركة الحرية والنصر والاستقلال وتقرير المصير.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها