دونالد ترمب رئيس الدولة العظمى يطلق تهديداته ضد الفلسطينيين متوعداً إياهم بـ "الجحيم"، وكأن الفلسطينيين الذين يقفون على حافة القهر والمذابح والمعاناة منذ عقود بحاجة إلى تهديد جديد ليكتمل هذا الواقع المأساوي. المفارقة الدرامية والهزلية هنا ليست في الكلمات نفسها، بل في عجزها عن استيعاب حجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني. فهل هناك جحيم أكثر مما يعايشه الفلسطينيون في الوقت الحالي؟.

في غزة الجحيم ليس مجرد مفهوم، بل حقيقة يومية منذ عقود تفاقمت وتراكمت إلى أن وصلت إلى أسوأ الأحوال. هناك الكهرباء مقطوعة والشوارع مظلمة كأنها مقبرة موحشة والماء الصالح للشرب يبدو كأنه حلم بعيد المنال. أطفال غزة يكبرون على الفقدان وعلى أصوات الطائرات والقصف، ويتعلمون أن النجاة هي القاعدة الوحيدة للحياة. الموت بالنسبة لهم ليس نهاية مفاجئة، بل احتمال دائم يكمن في كل لحظة. الشاب الغزي لا يحلم بالسفر حول العالم، بل بألا يُقصف منزله وهو نائم ويفقد أطفاله وأحباءه. 

ترمب بتهديداته يبدو كأنه يعتقد أن الفلسطينيين يعيشون في عالمٍ من الرفاهية، عالم يحتسون فيه القهوة على الشرفات ويستمتعون بغروب الشمس. ربما لا يعرف شيئاً عن غزة أو يتخيلها منتجعاً سياحياً من منتجعاته يمكن تحسينه ببعض التهديدات. لكن الحقيقة أنه لو زار غزة ليوم واحد فقط لرأى المشهد الحقيقي؛ بشرٌ بلا طعام، ومنازل مهدمة عائلات بلا مأوى تسكن الخيام المتهالكة، أطفال يلعبون قرب ركام مدارس دمرتها الغارات، بحر ملوث لا يستطيع أحد السباحة فيه، ومستشفيات تم تدميرها وإبادة كل من كان فيها، سواء أكانوا أطباء أم مواطنين أم مرضى.

الجحيم الذي يهدد به ترمب موجود بالفعل، إنه في الحصار الإسرائيلي الذي يُحكم قبضته على غزة منذ أكثر من سبعة عشر عاماً. إنه في القوانين العنصرية التي تحرم الفلسطينيين من أبسط حقوقهم الإنسانية. إنه في تاريخ طويل من الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل من التهجير القسري في النكبة إلى المجازر، مثل دير ياسين وكفر قاسم والحروب المتواصلة على غزة، إلى الحصار الذي جعل غزة أكبر سجن مفتوح في العالم، ومواصلة تهويد الأراضي واغتصابها في الضفة الغربية. 

ما يشهده العالم اليوم من تهديدات ترمب هو انحياز مطلق للظلم واستبدال العدالة بالتهديد، وهذا ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل هو انعكاس لفقدان القيم الأساسية التي بنيت عليها المجتمعات في الحقوق والحريات. إن دعم ترمب اللامحدود لإسرائيل التي تمارس عنفاً مستمراً ضد الفلسطينيين ليس مجرد خطأ سياسي، بل هو استثمار في مشروع احتلالي استيطاني يقوم على التطهير العرقي ومحاولة محو هوية شعب بأكمله، وغزة كانت أكبر مثال على هذه السياسة التي صدمت أحرار العالم.

الولايات المتحدة بإدارة ترمب التي تدعي أنها منارة الحرية وحامية الديمقراطية تقف اليوم في صف دولة تبني وجودها على أنقاض وطنٍ وشعب. لكنها وهي التي تعتمد خطاب القوة والتهديد والوعيد كوسيلة لفرض إرادتها تغفل عن حقيقة جوهرية، وهي أن العنف لا يمكنه محو إرث أمة، ولا يستطيع قتل فكرة متجذرة في قلوب الناس. الهوية الفلسطينية ليست مجرد كلمات على ورق، بل هي واقع حيّ ينبض في كل طفل يولد تحت الاحتلال، وفي كل جيلٍ يشهد الظلم ويقاومه.

هل تعتقد أميركا ترمب وإسرائيل نتنياهو حقاً أن بإمكانهما إنهاء وجود الفلسطينيين؟ هل يمكن محو أمة بأكملها بمجرد حروب متكررة أو حصار خانق؟. هذا التفكير ليس جديداً. الإمبراطوريات على مر التاريخ حاولت وفشلت. الفرس، الرومان، الاستعمار الأوروبي، جميعهم سعوا إلى قمع شعوب أصغر منهم قوة، لكنهم واجهوا حقيقة واحدة، وهي أن الروح الإنسانية لا تُهزم، والمطالبة بالحرية لا تنتهي مع موت الأشخاص، لكنها أفكار متجذرة بأرواح الأحرار.

الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة التفكير في دورها، ودعمها لإسرائيل ليس فقط نفاقاً سياسياً يتناقض مع قيمها المعلنة، بل هو استثمار في مشروع خاسر. الاحتلال الإسرائيلي لن يدوم لأنه يقوم على أساس هش. إسرائيل تخشى الهوية الفلسطينية، تخشى التاريخ، تخشى المستقبل. وما يُبنى على الخوف لا يمكن أن يستمر.

الفلسطينيون اليوم ليسوا مجرد ضحايا. هم رمز عالمي للرفض وللكرامة والصمود. وما يحدث في فلسطين من تدمير وإبادة وتهديد ووعيد ما هو إلا درس للعالم بأن الاحتلال قد يفرض الألم والمعاناة بالقوة، لكنه لا يمكن أن يفرض نسيان الهوية الفلسطينية، وهي أكبر من حدود الاحتلال، وأعمق من أن تُمحى بأي دعم عسكري أو سياسي.

هذا العالم الذي يشهد اليوم دعماً أميركياً لإسرائيل بلا حدود سيجد يوماً نفسه أمام واقع مختلف، لأن العدالة حتى لو تأخرت لا تسقط بالتقادم. وعندما تنهار هذه الإمبراطوريات المبنية على الظلم سيظل الفلسطينيون كما كانوا دائماً أوفياء لحقهم في الحياة، متشبثين بأرضهم، وأقوى من أي مشروع استعماري حاول سحقهم.

ترمب بتهديداته يبدو كأنه يغفل عن كل هذا التاريخ. لكن الفلسطينيين الذين عاشوا أسوأ أشكال القمع والظلم لا يخافون من تهديداته لأنهم يعيشون الجحيم يومياً. الجحيم بالنسبة لهم ليس مجرد فكرة، بل واقع صنعته سياسات الاحتلال والتواطؤ الدولي على ممارسات إسرائيل المتوحشة.

التهديد بالجحيم فقد معناه أمام شعب جعل من الألم والظلم وقوداً لصموده. ترمب وغيره من المرفهين وكل من يهدد الفلسطينيين لن يزيدوهم إلا ثباتاً على أرضهم وتمسكاً بحقوقهم في العيش بحريه كباقي شعوب العالم. الجحيم يا سيد ترمب ليس شيئاً جديداً عليهم، لكنه بالتأكيد يعكس جهل العالم الذي يدعي العدالة والحقوق والمساواة بحقيقة ما يحدث في فلسطين. 

التاريخ علّمنا أن الاحتلال مهما طال أمده وجبروته لا يستطيع أن ينتصر على الإرادة الإنسانية. فالحرية قد تُقمع، لكنها لا تُقتل، والجذور العميقة للحق لا تُجتث مهما حاولت قوى الظلم. إن الفلسطينيين اليوم يثبتون للعالم أن الكرامة والصمود أقوى من أي تهديد، وأن الجحيم الحقيقي هو عجز الظالم عن كسر إرادة من يدافع عن أرضه وحقه في الحياة.