هناك إجماع لدى المؤسسات الدولية، وإجماع لدى العرب والعالم أن قطاع غزة يلفظ أنفاسه الأخيرة، يحتضر إنسانيًا وحياتيًا، مجاعة سوء تغذية، أكثر من 90 بالمئة من الغزيين تحت خط الفقر، وأسعار المواد الغذائية جنونية، بحيث لا يستطيع أحد شراءها، القطاع بدون كهرباء، بدون ماء للشرب. ولا بنى تحتية، وفي كل دقيقة يرتقي شهداء وجرحى وتتزايد أرقام من فقدوا أطرافهم، وعيونهم، غزة الأحياء فيها أموات. الجميع في القطاع يرددون المقولة نفسها "حسبي الله ونعم الوكيل" للتأكيد أنهم لا يجدون من يتوجهون إليه بالشكوى، وهو دعاء فيه نقد غير مباشر لحماس لأنها لا تستمع ولا تأبه لمعاناتهم، فنقدهم لإسرائيل مباشر ودائم، ومع تفاقم المأساة بدأت الانتقادات علنية مباشرة لحماس وهتف الغزيون بصوت مرتفع "حماس برا برا"، على أمل أن تسمع حماس صوتهم وتقوم بسحب كل الذرائع من نتنياهو لاستمرار ماكينة القتل والتدمير.

ما يخيب الآمال أكثر هو أن حماس ماضية في مناوراتها دون أي اعتبار لأرواح الغزيين وأملاكهم وأرزاقهم، ودون أي اكتراث لمستقبل القطاع أو القضية الفلسطينية برمتها، وحماس لا تأبه إن كانت مناوراتها قد تنتهي بتهجير الشعب الفلسطيني من غزة أو أن تنفذ حكومة نتنياهو مخططاتها لتقسيم قطاع غزة إلى خمس مناطق معزولة بعضها عن بعض، وتحول المناطق المأهولة بالسكان إلى معازل على طريقة جنوب أفريقيا تعيش في حالة بؤس دائم، خصوصًا أنه في حالة كهذه لن يكون هناك إعادة إعمار. ويمكن تخيل أي مستقبل ينتظر الغزيين إذا بقيت حماس لا تفكر إلا بنفسها.

هناك شعور أكثر مرارة لدى الغزيين، لأن حماس لا تدافع عنهم وحتى لا تحاول، وأنها تستخدمهم، وتستخدم دمهم وتضحياتهم لما يخدمها هي ويخدم مصالحها، ومصالح جماعة الإخوان والحلفاء الإقليميين. خيبة الأمل والمرارة لدى الغزيين، هي أن ما يلمسونه أن كلاً من نتنياهو وحماس، بنفس القدر لا يأبهون بأرواحهم ولا حتى بوجودهم، لأن حماس لو كان لديها ذرة فهم أو احساس بالمجزرة الكبرى، في الإبادة الجماعية التي يتعرض له الغزيون منذ 19 شهرًا، لكانوا سلموا ما لديهم من محتجزين إسرائيليين. وقالوا للجمهور الفلسطيني، على الأقل نحن نخلي مسؤوليتنا عن استمرار الحرب.

- فالسؤال ما هي مصلحة حماس من استمرار الحرب والمماطلة في تسليم المحتجزين؟ أكيد ليس من بين اهتمامات حماس مصالح الغزيين، إذًا ما هي مصالحها؟.

حماس تتشابه في واقعها مع واقع نتنياهو، فإن نهاية الحرب تعني نهايتها، ونتنياهو، كذلك يدرك تمامًا أنه بدون استمرار الحرب سيواجه عشرات الملفات، التي تبدأ بالفساد وتنتهي بتحميله مسؤولية السابع من أكتوبر لأنه كان يصر على دعم حكم حماس في قطاع غزة، ومدها بالمال، والنظر إليها كذخر إستراتيجي لمنع قيام دولة فلسطينية. أما حماس فهي تواصل الحرب، ولا تكترث لاستمرارها، لأنها تعلم أن نهاية الحرب ستفتح الباب أمام الحديث بخصوص إعادة الإعمار. وأنه لا إعمار مع استمرار حكم حماس أو مع وجود سلاح حماس، فكل مماطلة حماس ما هي إلا مراهنة أنانية، تعتقد من خلالها أن ظروفًا إقليمية أو دولية قد تتغير وتسمح لها بالبقاء في حكم غزة، وهي من وجهة نظرها ممكنة، سواء عبر مساومات بين واشنطن وطهران أو حلفائها الإقليميين الآخرين.

حماس لا تفكر سوى بمسألة واحدة هي حماس، سوى أن تبقى تحكم غزة، أو أن لم تستطع فالحصول على ضمانات لسلامة قياداتها، أما الشعب في غزة، الناس العاديون، فعليهم أن ينتظروا، وأن يموتوا، وتدمر أرزاقهم فداءً لحماس. وما بات الغزيون يدركونه أن لا أهداف وطنية لحرب حماس، وأنها مثل نتنياهو، إما لا تقيم وزنًا لوجود دولة فلسطينية، أو أنها بالأساس جزء من إيديولوجيا ترى بالدول الوطنية شيئًا يتناقض مع مفهوم الأمة، لذلك هي أي حماس بالنسبة لنتنياهو أهم من أحزاب إسرائيلية، وهذا هو بالتحديد الذي لا تزال حماس تراهن عليه، خصوصًا عندما يعلن الرئيس الفرنسي بأن بلاده قد تعترف بدولة فلسطين قريبًا، فإن حماس ستمثل حلاً لنتنياهو لمنع حدوث ذلك، وهو بالضبط ما تراهن عليه حماس، لذلك لا يعنيها ولا يدخل في اعتبارها أن غزة تحتضر.