بقلم/جمــال قشمر- عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"

مطلع كل عام، في الأول من كانون الثاني يناير، يحيي أبناء حركة "فتح" ومعهم عموم الشعب العربي الفلسطيني، داخل الوطن وخارجه، ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي كان لحركة "فتح" شرف إطلاق رصاصتها الأولى عام 1965، وتعبيراً عن المظاهر الاحتفالية، يتم إيقاد الشعلة أو تنظيم المسيرات، وإحياء المهرجانات، المركزية والمناطقية، وتشمل الأنشطة، مختلف أوجه العمل الثقافي والاجتماعي والمسرحي والرياضي والكشفي وغيره، باعتبار الحدث، حدثاً جماهيرياً، وليس مناسبة نخبوية، فتشارك كل قطاعات الشعب الفلسطيني رجالاً ونساءً في فعاليات الانطلاقة. إن هذه النشاطات المتنوعة، تسهم في تعزيز علاقة أبناء التنظيم بحركتهم الرائدة، كما أنها تساهم في تمتين علاقة الجماهير بثورتها.

إنَّ كل ما تقدم وعلى أهميته، إلا أن الأساس يبقى هو جردة الحساب، التي تقدمها القيادة عن عام مضى، لتحديد موقع أقدامنا في هذه اللحظة التاريخية المصيرية، ورسم معالم المرحلة المقبلة، وبالتالي تحديد التحديات ومعها الخيارات الممكنة والمتاحة. وهو الموضوع الذي نجد أنفسنا معنيين بالمساهمة فيه.

لقد حددت حركتنا هدفها منذ انطلاقتها، وهو تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، إلا أن الظروف والواقعية السياسيَّة، بدّلت هدف التحرير إلى هدف الاستقلال وتنازلنا عن الجزء الأكبر من حقنا التاريخي، وقبلنا بدولة على مساحة 22% من أرضنا، في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشريف، مع التمسك بقضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم. إن المحاولات الإسرائيلية الحثيثة والمتواصلة، لابتلاع ما تبقى من أرضنا لصالح الاستيطان، وتحويل الدولة الفلسطينية المنشودة، إلى إدارة محلية، عبر الإصرار على التواجد العسكري في غور الأردن، والسيطرة على جميع المعابر براً وبحراً وجواً، ويحاولون إسقاط حق العودة، تارة بالمطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة، مما يمكنهم من طرد شعبنا من أراضي ال 48، وطوراً من خلال التبادلية، أرضاً وبشراً، بحيث يتخلصون من كتلة بشرية فلسطينية تتجاوز نصف الشعب الفلسطيني.

إن المواقف الفلسطينية معروفة ومعلنة، وتمتاز بالثبات والمثابرة عليها، وشهدت كل جولات التفاوض صموداً وتمسكاً بالحقوق، لا سيما حقنا في جولة كاملة السيادة على أراضي ال 67، وعاصمتها القدس الشريف، هذه المدينة التي هبّ شعبنا دائماً للدفاع عنها، وهو الآن يملأ باحات الأقصى ليسقط مشروع تقسيمها مكانياً وزمانياً كما جرى للحرم الإبراهيمي في الخليل. إننا في الوقت الذي لم نرفض مبدأ المفاوضات. إلا أننا كنا نرفض الذهاب إليها، عندما تشكل غطاءً للاستيطان، هذا الاستيطان الذي هو فعلياً نتيجة للاحتلال وليس نتيجة للتفاوض، لقد ذهبنا أخيراً إلى هذه المفاوضات، والتزمنا عدم الذهاب إلى المؤسسات الدولية، مقابل حرية أسرانا المئة وأربعة، وهو التزام وضعته القيادة الفلسطينية في رأس سُلَّم اهتماماتها، والتزمت مع خروج الدفعة الثالثة، بملف الأسرى المرضى الذين يعانون من أمراضهم ومن ظروف التعذيب والتنكيل. ومع نهاية الأشهر التسعة من المفاوضات، علينا ترجمة انتصارنا السياسي والمعنوي بنيل فلسطين عضوية مراقب في الأمم المتحدة. بالذهاب إلى المؤسسات الدولية، والانتساب لها، وتثبيت حضورنا فيها، وملاحقة العدو أمام المحاكم المختصة على احتلاله وجرائمه.

إنّ نيل فلسطين صفة عضو مراقب بهذا الدعم الكبير من الدول الصديقة، يفرض علينا تعزيز علاقتنا مع هذه الدول، التي انحازت لعدالة قضيتنا، غير آبهة بالتهديد والإغراء الإسرائيلي الأميركي.

إذ كان العام الذي مضى، قد شهد صموداً فلسطينياً على طاولة المفاوضات، إلا أنه شهد تطويراً في المقاومة الشعبية، التي كانت قرية بلعين شرارتها الأولى، لكنها امتدت إلى نعلين والنبي صالح والمعصرة وكفر قدوم ومواقع أخرى، وهي مدعوة إلى تطوير المشاركة الفلسطينية لتكون المشاركة بالآلاف وعلى مختلف نقاط الاحتكاك مع الاحتلال، فضلاً عن مشاركة المتضامنين الأجانب ونشطاء السلام الإسرائيليين.

إن التحديات تطال مختلف أوجه مشروعنا الوطني الفلسطيني، والرد عليها يكون بتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وانجاز المصالحة مع حركة "حماس" حيث ثبت أن البيت الفلسطيني هو البيت الحاضن والدافئ، وإن المراهنة على ما يتجاوز هذا البيت هو مغامرة قاتلة وتضييع للبوصلة، ذلك أن شعباً ابتلي بالاحتلال الإسرائيلي عدواً، هو بغنى عن التفتيش عن أعداء آخرين، انه تشتيت الجهد في الموقع الخطأ، والطريق إلى هذه المصالحة جلي وواضح، حكومة كفاءات تحدد موعداً للانتخابات الرئاسية والتشريعية، والكلمة الفصل هي للشعب الفلسطيني، والرابح الوحيد هو مشروعنا الفلسطيني الوطني عندما يستعيد حضوره وامتداده على جميع أجزاء الوطن.

إننا في هذه اللحظة المصيرية، التي يعيشها عالمنا العربي، وحيث تشهد الساحات العربية مزيداً من الصراع، الذي يلبس لبوساً متنوعاً، فإننا انتهجنا سياسة عدم التدخل والنأي بالنفس، وهي سياسة أثبتت صحتها، إلا أنها لا تروق للبعض مما يجعل مخيماتنا في عين العاصفة، لا سيما في لبنان، وهذا  يتطلب يقظة فلسطينية عالية وتنسيقاً رفيعاً، ودوراً مميزاً  لا سيما لحركة فتح وأبنائها، التي تعودت على حمل المصاعب والدفاع عن مصالح وحياة شعبنا في المخيمات، مما جعلنا ومناضليها وكوادرها، هدفاً للقتل لدى الفئات التي تسعى لإقحام مخيماتنا في هذا الحريق الكبير. إن الحرائق في عالمنا العربي، جعلت مكانة فلسطين تتراجع لدى جماهير أمتنا العربية، الذين كانوا على الدوام إلى جانب نضالنا، ورغم ذلك فإننا مطالبون بالتواصل والاتصال، على المستويين الرسمي والشعبي، وقد يكون مفيداً العودة إلى "الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية، التي تشكلت في عز كفاحنا الوطني، وضمت أحزاباً وشخصيات وتجمعات من كافة أقطارنا العربية، وضعت في مقدمة اهتماماتها القضية الفلسطينية وكيفية مساندة ومشاركة الشعب الفلسطيني في ثورته، على طريق تحرير وطنه.

إذا كان وضوح الرؤيا شرط من شروط الانتصار، وتغليب المصلحة الفلسطينية على المصالح الأخرى، وحماية الوحدة الوطنية، وإعادة الوئام إلى الصف الفلسطيني، إلا أن شروطاً داخلية تتعلق ب "حركة فتح" ستبقى تشكل القاعدة الأساس في حماية المشروع الوطني الفلسطيني وانتصاره. يشهد محبو فتح وأخصامها في آن معاً بأن قوة فتح قوة للشعب الفلسطيني وفتح المعافاة الواحدة تعطي العافية للجسد الفلسطيني، فصائل وأبناء مخيمات. وبالتالي فإن ذهاب حركة فتح إلى تجديد حياتها السياسية والتنظيمية من خلال المؤتمرات التي عقدتها وصولاً إلى المؤتمر العام، يساهم في تدعيم دور فتح كرافعة للمشروع النضالي. ثم أن كثيراً من مظاهر الضعف والتسيب، بات معالجتها أمراً ضرورياً، فالحركة تحكمها أنظمة وقوانين وأطر، والخروج على هذه الأطر وهذه القوانين يساهم في تشويه صورة فتح ودورها، لذا فإن حماية وحدة فتح، وحماية دورها وسمعتها، ومحاسبة المتطاولين عليها، لا سيما من أبنائها، هو شرط ضروري، لاستمرار مسيرتنا، والتفاف القوى حولنا، ومعهم شعبنا صاحب المصلحة العليا في الانتصار والعودة.

في عامها الجديد، مثلما كانت فتح في طليعة شعبنا عند الانطلاقة، وخاضت أخطر مغامرة ثورية في هذا العصر، في عالم النفوذ الأجنبي وآبار النفط، وفرضت شعبنا على خارطة الكون، باعتباره شعباً له حق ووطن، وحولته من شعب لاجئ يبحث عن خيمة واعاشة، إلى شعب مقاوم يسعى إلى تحرير فلسطين، ومثلما كانت فتح جزءاً من أمتنا العربية، ترفض الهزيمة وعارها عام 1967، وترد لها كرامتها في معركة الكرامة 1968 بالدم والشهداء من أبنائها وقادتها، هكذا ستكون فتح وقد دخلت عامها التاسع والأربعين في مقدمة المدافعين عن حقنا وقضيتنا ووطننا، ولن يكون ذلك إلا باستمرار النضال والثبات والمواجهة والبناء، والجواب على سؤال سيكون مركزياً في هذا العام: كيف نجعل الاحتلال مُكلفاً، ليكون عمره أقصر؟؟