أثارت بعض النُّخب السياسية مجدّدًا السؤال عن طبيعة المرحلة السياسية التي تعيشها الساحة الفلسطينية، هل هي مرحلة تحرر وطني وبناء مؤسّسات الدولة، أم مرحلة تحرُّر وطني فقط؟ وهل أنجز الشعب الفلسطيني مشروع الاستقلال السياسي، حتى يُطلق على المرحلة: مرحلة بناء الدولة؟ وأين هي الدولة ليتمَّ بناء المؤسّسات بها؟ وهل "إسرائيل" الاستعمارية تسمح بالتأصيل لعملية البناء في ظل سعار استيطانها الاستعماري ومسابقتها الزمن للقضاء على خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967؟

من حيث المبدأ لا يمكن القفز عن التحديد العام لسمة المرحلة الكفاحية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، باعتبارها مرحلة تحرّر وطني، لأنَّ العملية التحرُّرية من الاستعمار الإسرائيلي لم تنتهِ، وما زال مشوار الاستقلال السياسي والاقتصادي طويلاً بسبب الرفض الإسرائيلي لخيار السلام، وعدم وجود عوامل ضغط إسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية على "إسرائيل" لإلزامها باستحقاقات السلام.

رغم ذلك هل هناك تناقض بين هذا التوصيف الناظم لكفاح الفلسطينيين، وبين إضافة بناء مؤسسات الدولة في أراضي دولة فلسطين المحتلة عام 1967؟ وهل عملية البناء خارج دائرة عملية التحرُّر أم جزء منها، وتؤصِّل لها؟ ولماذا يتم وضع التحرر الوطني والبناء كأنهما قطبان متناقضان وليسا متكاملين؟ من حيث الجانب النظري الفكري السمة العامّة للنضال الفلسطيني، هو نضال تحرُّر وطني. لكن هذه السمة لا تتناقض مع عملية البناء، لأنَّ عملية التحرر، عملية شاملة ترتكز على مجموعة عوامل لتعزيز مكانة الشخصية والهُوية الوطنية، وهي تشمل الجوانب السياسية والنضالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التربوية .. إلخ، وكل العوامل آنفة الذكر تُسهِم في الارتقاء بالكفاح التحرُّري لبلوغ الدولة كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 1967. بالإضافة لذلك، سمحت اتفاقيات أوسلو بوجود كيانية فلسطينية على الأرض الواقعة تحت الاحتلال مطلع عام 1994، أُطلِق عليها السلطة الوطنية (الحكم الإداري الذاتي)، تمكَّنت هذه السلطة من تشكيل حكومات لها أجهزتها ومؤسساتها التنفيذية من أمنية وإدارية خدماتية ومجلس تشريعي وسلطة قضائية، وبات لها تمثيل دبلوماسي بِاسم دولة فلسطين بعد الارتقاء بمكانة فلسطين كدولة مراقب في الأمم المتحدة في تشرين الثاني 2012، وتُمثِّل ذراع منظمة التحرير الفلسطينية على الأرض المحتلة. هذا التطور وسمَ المرحلة التي أعقبت اتفاقيات أوسلو بِسِمَةٍ جديدة، أُطلِقَ عليها "مرحلة التحرُّر الوطني وبناء مؤسسات الدولة". وهي عملية ديالكتيكية (جدلية) متداخلة تداخلاً عميقًا لا ينفصم. وهنا لا يجوز النقاش عن كم أصابت أو أخطأت القيادة في عملية البناء. ولا يلغي ذلك التوصيف لسمة المرحلة استشراء وجنون الاستعمار الإسرائيلي في مواصلة خيار الاستيطان الاستعماري، وقضم الأرض الفلسطينية، لأنَّ شكل وركائز الدولة موجودة على الأرض متمثّلة بالشعب والأرض ومؤسّسات السلطة المتسلّحة بالحق التاريخي والعدالة النسبية والقوانين الأممية الداعمة والمتبنية لهذا الحق. وبالتالي حصر النقاش بنجاح أو فشل السلطة من عدمه يعتبر تفصيل، لأنَّه ليس الأساس في المحاكمة الفكرية السياسية لطبيعة المرحلة.

ممَّا تقدَّم يمكن الجزم بأنَّ المرحلة التي تعيشها الساحة الفلسطينية، هي مرحلة تحرُّر وطني وبناء مؤسسات الدولة، ولا تقتصر على جانب من دون الآخر، لأنَّ مواصلة مشوار الكفاح لبلوغ الاستقلال السياسي والاقتصادي، لا يتناقض مع عملية البناء لمؤسسات الدولة بغض النظر عن أي ملاحظات يدوِّنها هذا المراقب أو ذاك أو هذا الفريق السياسي أو ذاك. أضف لذلك أليس هدف التحرر الوطني، بلوغ الاستقلال السياسي وإقامة الدولة؟ وطالما أفرزت اتفاقيات أوسلو كيانية فلسطينية بملامح محددة وواضحة المعالم، ويجري من خلالها تمثيل الفلسطينيين في المنابر والمؤسسات العربية والإقليمية والدولية، لماذا على الشعب وقيادته إسقاطها من معادلة الصراع؟ أليس في ذلك تنازل مجاني عن حقيقة قائمة ودامغة ولصالح دولة الاستعمار الإسرائيلية؟

باختصارٍ شديد وعميق وفق ما تعيشه الساحة الفلسطينية منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو عام 1993 يتّسم الكفاح الوطني الفلسطيني بالطابع التحرُّري والبناء لمؤسّسات الدولة الوطنية المستقلة. والبناء هنا جزء لا يتجزّأ من عملية التحرُّر، ومتلازم معها، ورديف قوي لها، وتعميق لركائزها، وتأصيل لتحقيق الهدف السياسي الناظم لها المتَّفق عليه، والمتمثل في إقامة الدولة المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194.