خاص مجلة "القدس" العدد 341 أيلول 2017 بقلم: محمود الأسدي

هل يمكن رسم علاقة بين التطرف الديني والاستبداد القائم في الوطن العربي الذي يطال القوى الإسلامية المتعددة والحركات السياسية في منطقتنا العربية؟! ومن منهما مولِّد الآخر؟ وهل هناك تلاحم وظيفي بين الطرفين؟ أو أنَّ هناك تبادلاً وظيفياً بينهما؟ منذ الشهر الثالث من عام 2011 والدول العربية ذات الأنظمة الشمولية والتدمير يطال كافة مناحي الحياة بأيدي حكامها وتحالفاتهم ضد مواطنيهم مع قوى إثنية وطائفية ومللية داخلية ومثيلاتها خارجية.
تناول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصادر الاستعمار"، مخاطر الاستبداد الديني والطغيان السياسي، أي ما تعانيه شعوبنا العربية في القرن الواحد والعشرين ميلادي.
تضافرتْ أراء العلماء المهتمين في تحولات الأديان على أنَّ الاستبداد السياسي متولّد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك تولّد فهما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان وتطويعه.. تدجينه.. استكانته أو سحقه.
التبس الفرق في السواد الأعظم من شعوب منطقة الشرق الأوسط بين ما تطرحه الثقافة الدينية من ترهيب وتخويف بأوامر ونصوص دينية يتشدق بها أئمة المساجد وما يفرضه الطاغي المتسلط والمستبد والمطاع بالقهر.
يرى العديد من المتنورين والباحثين أنَّ السياسة والدين يسيران متكاتفين، ويعتبرون أنَّ الإصلاح الديني هو أكثر فعالية وأسهل السبل للإصلاح السياسي.. يلتقي التطرف الديني والاستبداد السياسي في إقصاء المواطنين.. قهرهم.. وتدجينهم، ويلتقيان في أدلجة المواطنين من مخافة الفتنة وتأليه الحاكم ورجل الدين، وتعميم ثقافة اليأس والإحباط والدمار.
كل من لا يقرّ ذلك فهو في هذا الطرف أو الطرف الآخر.
ويتماثل مع الكواكبي مفكر آخر في كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، حيث رصد الروابط بين الاستبداد والتطرف والعلاقة بين الفكر الديني المتطرف وبين الديمقراطية والاستبداد السياسي قائلاً: "الديمقراطية لا تحارب الفكر المتطرف وإنما تعمل على إزالة وجوده.. الاستبداد السياسي يعطي التطرف كل مقومات وجوده. ولكنه يقمعه بعنف إذا تجاوز حدوداً معينة، والاستبداد يلتقي مع التطرف في علاقة وثيقة، سيما أن الأخير يقوي الأنظمة القمعية وهذا ما نشهده في العراق.. سوريا.. ليبيا.. الجزائر.. اليمن وغيرها، حيث سادت نزعات التعصب، وأقفلتْ المنافذ أمام المحاولات الإصلاحية خشية المساس بالمقدسات وزحزحة الثوابت الدينية، وتعميم ايدولوجيا نفي وإقصاء الآخر، مثال ما يجري في سوريا.. العراق.. واليمن وتدخل مليشيات طائفية ودول طائفية هنا وهناك مثال صارخ لما لهذه الايدولوجيا الدينية من نفوذ وسلطان.
داعش وباء قاتل. وماذا عن التنظيمات المذهبية الأخرى وغيرها من تنظيمات أثنية ومذهبية ومللية؟! وماذا يسمى إقدام أحد عناصر "المجلس العسكري السرياني" في محيط تل تمر في محافظة الحسكة، سوريا، على قطع رأس أحد عناصر داعش وفصله عن جسده بواسطة آلة حادة، (الحياة- 30 أيار 2015).
أليس ذلك تكراراً لأسلوب داعش في ذبح المعارضين؟! وماذا عن طرد 400 ألف من أقلية الروهينغا المسلمة المضطهدة في ميانمار؟ وماذا عن كافة الأحزاب اليمينية في أوروبا في ألمانيا حيث رفع الحزب اليميني اليوم شعار إسلاموفوبيا (الإرهاب الإسلامي)؟ وماذا يقال عن زعيمة حزب "الجبهة الوطنية" الفرنسي مارين لوبن المعروفة بمواقفها اليمينية المتشددة ضد المسلمين في فرنسا؟ وقبل هذا وذاك انطلق شعار "إسلاموفوبيا" في أمريكا منذ عام 2001، وكان قبلها وبعدها مراقبة المساجد وملاحقة الملتحين والتنصت على كافة المكالمات التي تردُ وتنطلقُ من المساجد، ومصادرة الأموال التي تجمع إلى النازحين الفلسطينيين والمحاصرين في غزة ومناطق الضفة الغربية، وطرد المدنيين الفلسطينيين من المثلث وزع المستوطنات الصهيونية وتغيير معالم المدن في الضفة الغربية ومدينة القدس!!!.
القس تيري جونز من ولاية فلوريدا الأمريكية قام بحرق نسخ من القرآن الكريم أمام حشد من أنصاره ووسم الإسلام بالإسلامو فوبيا، وشجَّع أيضاً وموّل المجرم القبطي العنصري الحاقد نيقولا على إنتاج وتوزيع فيلم شوّه به الرسول الكريم (القدس، عدد 299، تشرين ثاني 2013).
أفيدا يوسف رئيس حزب ساش الصهيوني يدعو أنصاره يوم عيد احتفاء اليهود بعيد الفصح (الفطير) إلى إبادة الشعب العربي قائلاً: "تمنع الرحمة عنهم، أطلقوا صواريخكم عليهم، أبيدوهم إنهم شر مكروه وملعون".
ممارسات مدانة من هؤلاء وكذلك من داعش التي كانت من إفرازات القمع والاضطهاد العنصري ضد المسلمين، وغضّ الإعلام الغربي الطرف عنهما كما فعلتْ الدول الغربية حكومات وأحزاب وتنظيمات مدنية وحقوقية وإنسانية!!.
هذا وتجدر الإشارة إلى بعض أسباب بروز التطرف الأصولي الجهادي إلى أنظمة ديكتاتورية مستبدة وسياسة التهميش والإقصاء والفساد المستشري في مفاصل الدول، وكذلك لتبعية أنظمة المنطقة العربية لدول إقليمية وغربية، وإنشاء مليشيات طائفية بديلة لبعض الجيوش العربية، وانتهاك القوانين والحقوق العامة والتسلط على المواطنين وتقييد حرياتهم في التعبير والتظاهر.. حركات احتجاجية مدنية عفوية قمعتْ بالغاز والبارود.. تبعتها تداخلات روسية، بريطانية، فرنسية، إيطالية، أمريكية وإسرائيلية!!.
ما يجري اليوم في الوطن العربي من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً صراعات أحدثت إرباكاً وتمزقاً وتشظياً في إيديولوجيات رفعت وسوقت وبشَّرت بها هذه الأنظمة منفردة ومجتمعة وتراجعت شعارات كبرى كقضية فلسطين أو الوحدة العربية أو الإسلامية أو حتى الأممية!!.
حجم الصراع هذه الأيام، كما كان، بين مصالح الدول الكبرى، وكانت الأنظمة العربية كافة-اليمينية، اليسارية والاشتراكية أدوات، وما زالت، لتلك الدول، كما حال بلادها واقتصادها وازدهارها مرهون لهذا الفريق أو ذاك.
هل يمكن وضع حد للمجموعات الإرهابية والتكفير وأحزاب أنظمة شمولية تزج بآلاف المواطنين في سجونها وتستخدم كافة أنواع القهر والتعذيب والإقصاء ضد مواطنيها المقهورين والمضطهدين في وطنهم؟!
هل يعقل ألّا تتمايز مواقف العلمانيين واليساريين عن مواقف الأحزاب الشمولية والطائفية التي أنزلت في الوطن الدمار.. الخراب.. التهجير.. والقتل؟ متى يكون الوطن فوق المكاسب والمصالح الحزبية، والطائفية والأسرية والفردية؟!!.