الاتفاقيات التي وقعتها إسرائيل مع العديد من الدول العربية، تحمل في طياتها أهدافًا استراتيجية لدولة الاحتلال. والأوزان التي تمثلها تلك الاتفاقيات بما تحققه من مكاسب أيضًا استراتيجية لدولة الاحتلال. بعض تلك الاتفاقيات لا تساوي الحبر الذي كتبت به، لأنها ذات صبغة بروتوكولية، وبعضها لتعزيز أمن إسرائيل وبعضها لتحييدها عن دورها القومي. ويبقى السؤال ماذا حققت تلك الاتفاقيات من مكاسب لكل دولة وقعت اتفاقيات تطبيع أو سلام، بخلاف الدول التي وقعت الاتفاقيات، فإن الدولة العبرية هي الدولة المزدهرة اقتصاديًا ولا يوجد لديها مشاكل إذا لم تقم هي باستفزاز الآخرين، لنقف أمام حقيقة مصير تلك الاتفاقيات التي تلتزم بها الأطراف غير إسرائيل التزامًا حديديًا، وما هو السبيل لتحقيق أفضل المكاسب الوطنية لتلك الدول؟. هذا ما نسميه مربط الفرس.

ولأن المشهد اليوم يدور مؤخرًا حول أن الوزير السابق ايتمار بن غفير زعيم ما يسمى حزب " القوة اليهودية" تقدم بمشروع قانون إلى الكنيست الإسرائيلي لإلغاء "اتفاق أوسلو، والخليل، وواي رفر"، مطالبًا بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، وإعادة الأملاك والأراضي التي تم تسليمها إلى الفلسطينيين بموجب تلك الاتفاقيات إلى ما قبل توقيع تلك الاتفاقيات، بدعم أميركي ودولي، بمعنى إنهاء السلطة الفلسطينية، وإعادة الإدارة المدنية الإسرائيلية لعملها كقوة احتلال لإدارة الشأن الفلسطيني.  مشروع الاقتراح هذا بدأت إسرائيل مسيرته العملية منذ أمدٍ طويل، وخاصة بعد اجتياح إسرائيل للضفة الغربية في عهد رئيس وزرائها  شارون، حيث أقدم الجيش الإسرائيلي على تدمير البنية التحتية لكثير من مؤسسات السلطة الفلسطينية وتحديد مراكز الأمن الفلسطيني التي دمرتها إسرائيل تدمير كاملاً، وقتلت أعدادًا كثيرة من قوات الأمن الفلسطيني وزجت العشرات منهم في السجون، كما وأقدمت على تدمير للبنية التحتية للمدن الفلسطينية ونشرت فيها الجيش الإسرائيلي من جديد. واستمر هذا المسلسل من المضايقات، وخنق المدن الفلسطينية وتعطيل الحياة فيها وعمل أجهزة الأمن الفلسطيني بالتدريج، إلى أن أصبح في كثير من الأحيان عدم قدرة الجهاز المدني والأمني في السلطة الفلسطينية على القيام بمهامه. وتمثلت عملية الخنق في وضع الحواجز والبوابات الحديدية على مداخل المدن والقرى إلى أن أصبح عدد تلك الحواجز يتجاوز ثماني مئة حاجز  منتشرة في كل المدن الفلسطينية. وقطعت أوصال تلك المدن وحاصرتها بالاستيطان والجدار والشوارع الالتفافية، مما جعل من المتعذر على تلك المدن أن تتصل ببعضها البعض وخاصة لأسباب أهمها التصنيفات التي صنفت بها المدن والقرى الفلسطينية بما عرف بمناطق A , B, C.

وهذا يعني أن المناطق التي يطلق عليها B, C هي مناطق تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية. وتحاصر تلك المسميات المدن الفلسطينية حيث أخضعتها إسرائيل للإشراف الأمني الإسرائيلي.

 لقد عمدت إسرائيل إلى خرق تلك الاتفاقيات بالرغم من هزالتها، وهي أصلاً مدة صلاحيتها وفق ما اتفق عليه خمس سنوات، تفضي بعد ذلك إلى مباحثات نهائية حول الدولة الفلسطينية، إذ إن إسرائيل شاهدت أن السلطة الفلسطينية عززت من الهوية السياسية للشعب الفلسطيني، واستطاعت أن تنقل الواقع الفلسطيني إلى واقع مزدهر قابل للانتقال إلى مرحلة الدولة الفلسطينية، وهو المشروع الذي تحمله السلطة الفلسطينية للفلسطينيين على حدود 1967، وهذا لم يعجب الإسرائيليين، وبدؤوا في تقويض مسار السلطة الفلسطينية، وكان أكبر تلك الجهود وأخطرها على مسار القضية الفلسطينية هو الدور الإسرائيلي في الانقسام ومنع الترابط بين شطري الوطن، بهدف منع إقامة دولة فلسطينية على الأرض الفلسطينية في حدود 1967، إضافة إلى قرصنة أموال الضرائب الفلسطينية التي تتحكم إسرائيل في جمعها، مقابل عائد مادي وفق الاتفاق، لكنها ما زالت تحتجز الكثير من هذه العوائد وتتصرف بها وفق رغباتها، مما أحدث أزمة مالية خانقة لدى السلطة الفلسطينية. 

والكل يعلم أن الحكومة الإسرائيلية الحالية شرعت قانونًا في الكنيست الإسرائيلي لمنع إقامة دولة فلسطينية. كما أنها بحكم قوة الاحتلال والاستيطان تعمل على ضم مناطق التي تسمى C، وهي تشكل %63 من مساحة الضفة الغربية، ناهيك عن تعزيز الاستيطان والجدار، والشوارع الالتفافية، والمناطق العازلة التي تعمل على تنفيذها حول المستوطنات لتبقى مساحة صغيرة من أراضي الضفة الغربية لا تزيد عن %15، وبهذا تنهي إسرائيل من خلال تلك السياسات والقوانين التي تصدرها الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين.

ولذا فإن الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة والضفة الغربية واستهدفت مخيمات اللجوء الفلسطيني، تصب في دائرة التهجير لأبناء الشعب الفلسطيني. لأن إسرائيل ترى في العمق الديموغرافي الفلسطيني تهديدًا حقيقيًا لدولتها، لذا تعمل اليوم وبدعم غربي على تهجير أعداد كبيرة من الشعب الفلسطيني. العقيدة الإسرائيلية السائدة اليوم في أوساط اليمين الإسرائيلي المتطرف تنقل إسرائيل من دولة ديمقراطية، إلى دولة أبرتهايد عنصرية، ولا تقبل بوجود أثنيات أخرى مما يهدد الوجود الفلسطيني في داخل ما يسمى الخط الأخضر، ما يؤهل إلى وجود صراعات طويلة الأمد لاستعادة الحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني على أرضه ووطنه. 

كل تلك المخططات وذلك الضجيج يصدم في الحقيقة، إلا أن الشعب الفلسطيني صامد مرابط على أرضه ووطنه، وما زال وسيبقى فيها. هل يمكن لبن غفير وزمرته أن يهجر فلسطينيًا نزح في الحرب عشرات المرات، وعندما سمح له بالعودة إلى منزله عاد في مشهد تاريخي يقول: إننا عائدون، ومن المراح ما في رواح، ليست الاتفاقيات هي التي ترفع العلم الفلسطيني إنها إرادة الشعب وحين يرفع هذا العلم طفل من أطفال بلادي وزهرة من أزهارها علم فلسطين على أسوار القدس هنا تقام دولة فلسطين. إن صورة مشهد العائدين النازحين من جحيم الموت إلى الأطلال، صورة هذا المشهد يجب أن تبقى حية أمام من يريد أن يحول هذا الوطن إلى ريفييرا وشيلهات ويظن أن الوطن مزرعة تباع وتشترى. هنا باقون وهنا صامدون وليرحل محتلي فاليرحل.