بقلم: رفعت شناعة
افتتاحية مجلة "القدس" الاصدار السنوي 333 كانون ثانِ 2017

احتفلت حركة "فتح" بذكرى انطلاقتها الثانية والخمسين، كما احتفلت أيضاً بيوم الشهيد الفلسطيني حيثُ كان أحمد موسى الشهيد الأول في 7/1/1965 وهو أحدُ أبطال عملية تفجير نفق عيلبون، وهي العملية الأولى التي ترمز إلى انطلاق الكفاح المسلَّح الفلسطيني وحرب التحرير الشعبية في 1/1/1965 حيثُ برزت قوات العاصفة الجناح العسكري، أمَّا حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" فقد بدأ تأسيسها في العام 1957 – 1959 .
ونحن نعيش أجواء الاحتفالات لا يفوتنا إطلاقاً، أن نُمعِنَ التفكير في واقعنا ومستقبلنا، وأن ندقّق جيّداً في طبيعة التحدّيات التي تعترض مسيرة ثورتنا، واعتماد الأساليب والوسائل والأدوات الأكثر فعالية وإيجابية في حسم الصراعات بما يضمن سلامة الأوضاع الفلسطينية، ونزع الألغام المزروعة أمامنا، لإبقاء جذوة التحرير مشتعلة. والقضايا التي سنتناولها في هذا المجال هي قضايا حيوية ومترابطة. وتبدأ هذه القضايا بواقع حركة "فتح" ومسيرتها الثورية. ثُمَّ الانقسام ومخاطره على القضية الفلسطينية. يلي ذلك أوضاع منظمة التحرير وضرورة تفعيل أُطُرها، ودورها. ثُمَّ المخاطر الإسرائيلية واستهدافها لجوهر الثوابت الوطنية الفلسطينية. يلي ذلك أوضاع المخيّمات الفلسطينية في الشتات وخاصّةً لبنان وسوريا .
أولاً: إنَّ التحدِّيات والمخاطر لم تتوقَّف تاريخياً لأنَّ الجانب الصهيوني مُصرٌّ على تصفية القضية الفلسطينية وتقزيمها في أحسن الحالات، وذلك من خلال العدوان المتواصل والمختلف الأوجه على شعبنا الفلسطيني في الداخل والشتات. والتركيز دائماً على حركة "فتح" لأنَّها هي العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولأنَّها هي الرائدة، وصاحبة المشروع الوطني، فالطريق الأقصر بالنسبة للعدو هي استهداف حركة "فتح" بضربات قاصمة تقصم ظهر "م.ت.ف"، وتُنهِك قدرةَ الثورة الفلسطينية على الاستمرار .
ومن هذا المنطلَق فإنَّ قيادة حركة "فتح" ضاعفت جهودها المبذولة حركياً، وفلسطينياً، وإقليمياً لحشد الجهود الداعمة لعملية عقد المؤتمر الحركي السابع، والاستعانة بمختلف الأطراف المؤثِّرة والقادرة على تسهيل العملية، ومنها ضمان وصول كادر "فتح" في قطاع غزة إلى رام الله لأنَّه لا مؤتمر بدون وجود كادر "فتح" من قطاع غزة. وأيضاً دخول كوادر حركة "فتح" من الشتات إلى أراضي السُّلطة الوطنية .
إنَّ انعقاد المؤتمر أكَّد انتصار الإرادة الفلسطينية الحُرَّة على كلِّ المحاولات التخريبية والمعادية، ونجح الرئيس أبو مازن كقائد لحركة "فتح"، ورئيس لدولة فلسطين أن يوفِّر عوامل النجاح في الانعقاد، ولذلك كانت المكافأة له من أبناء الحركة باختياره بالإجماع قائداً لحركة "فتح"، وهذه كانت رسالة قوية وواضحة إلى كل الذين وجَّهوا سهامهم المسمومة إلى الرئيس محمود عبّاس ومكانته القيادية بأن حركة "فتح" وفية لقيادتها مثلما هي وفية لفلسطين.
عظمة هذا المؤتمر أنَّه ومن خلال الضيوف وكلماتهم المعبِّرة رفعوا حركة "فتح" إلى مكانتها دولياً وسياسياً ووطنياً . كما أنَّ الجرأة في المداخلات التنظيمية والسياسية، والوطنية، والأمنية شكَّلت رصيداً ثورياً أعطى للتوجهات الحركية المزيد من الصّلابة والوضوح.
ارتدَت حركة "فتح" حُلَّة جديدة من خلال الإطلاع على مضمون التقارير المتعلِّقة بالمهام، وأيضاً من خلال انتخاب الهيئات القيادية بسلاسة تحكمها ترتيبات إدارية وأمنية مُحكمَة. إنَّ مفاعيل المؤتمر هي بانتظار الانتهاء من توزيع المهام على أعضاء اللجنة المركزية، وأيضاً انعقاد المجلس الثوري لوضع اللّمسات الأخيرة على مشروع قرار البرنامج السياسي، والنظام الداخلي. إنَّ نجاح حركة "فتح" في عقد مؤتمرها أنعش الوضع الفلسطيني الداخلي، وأحدث نقلةً نوعية في العلاقات الداخلية تؤهِّل الساحة الفلسطينية للانطلاق نحو الترجمة الفعلية للتطلُّعات الوطنية الوحدوية.
ثانياً: رغم نجاح مؤتمر حركة "فتح" السابع، وإلقاء كلمة السيّد خالد مشعل عبر ممثِّله في الضفة الغربية على منصة المؤتمر بأنَّ الانقسام غريبٌ ومرفوضٌ، ولا مبرِّر له أمام الاستحقاقات الوطنية القادمة، ولكن اقتلاع الانقسام من أرض الوطن بعد أن أصبحت له بصماته وتأثيراته على مُجمَل الوضع الفلسطيني ليس عمليةً سهلةً خاصّةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التداخلات الإقليمية فيه، والتمسُّك الإسرائيلي به كأمر واقع يساعد في إيجاد حلول مقزَّمة ومجزَّأة للموضوع الفلسطيني، وهذه الحلول المشبوهة يأخذها الجانب الإسرائيلي في حساباته لأنَّها تتناسب مع الرؤية الإسرائيلية بحلول جزئية، ومؤقّتة، وكانتونات غير سيادية وغيرها.
ثالثاً: هذا كله يُسلِّط الضوء على واقع منظمة التحرير الفلسطينية، وانشغال الجميع بكيفية وضرورة تفعيل وتطوير أُطُر ودوائر منظمة التحرير الفلسطينية استناداً لاتفاق 2005 في القاهرة، ثُمَّ وثيقة الأسرى 2006 .
والآن الفرصة مؤاتية فلسطينياً انطلاقاً من القرار الذي صدر عن مؤتمر حركة "فتح" بضرورة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني خلال ثلاثة شهور. ونجحت الدعوة التي صدرت عن رئاسة المجلس الوطني بعقد الجلسة التحضيرية في بيروت في 10/1/2017، وحضرها الجميع بدون استثناء، وهذه فرصة لم تحدث منذ سنوات.
الجلسة التحضيرية بحضور الأمناء العامين أو مَن يمثّلهم، وأعضاء اللجنة التنفيذية فتحت المجال حتى يدلي كل واحد بدلوه، وأجمعت الحوارات والآراء على جوهر الموضوع، وهو ضرورة عقد دورة لمجلس جديد يتم انتخابه من الشعب الفلسطيني حيثما أمكن الانتخاب، وعندما لا تسمح الظروف بالانتخاب يتم التعيين بالتوافق بين أعضاء اللجان القيادية المتخصِّصة والمتفَق عليها. كما اتُفِقَ على خطوات مستقبلية من شأنها تعزيز هذه الجلسة وقراراتها، فهذه اللجنة التحضيرية يجب أن تلتقي قريباً خلال شهر لتناقش الخطوات القادمة. كذلك اتُفِقَ على أنَّ عملية تشكيل مجلس وطني جديد تتطلَّب أولاً تشكيل حكومة وحدة من مختلف الفصائل، وهي حكومة سياسية برنامجها السياسي هو برنامج منظمة التحرير. وبعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية يتم تنظيم عملية الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني خلال ثلاثة أشهر. وبهذه الآلية يمكن خلال هذه الفترة تقريباً إنجاز الخطوات المطلوبة واستكمال الترتيبات التي تُعدِّها اللجنة التحضيرية من خلال الصلاحيات المنوطة بها. وقد أجمع أعضاء اللجنة التحضيرية على أنَّ الخطوة الأولى التي يجب إقرارها هي البدء بإجراءات إنهاء الانقسام لسحب الفتيل من الساحة الفلسطينية، وبدء التعاطي الأخوي لتمهيد الطريق أمام هذا الاستحقاق الجوهري وهو عقد المجلس الوطني الذي سيُشكِّل في حال انعقاده رافعةً حقيقية للعمل الوطني الفلسطيني. أَما المخاطر الجسيمة فتتمثَّل في الإجراءات الإسرائيلية العنصرية التي تُمارَس يومياً ضدَّ شعبنا الفلسطيني، ولعلَّ أخطرها ما تشهده مدينة القدس من هدم مكثَّف للبيوت، ومن استيلاء على الأراضي العربية بقوة السلاح والمستوطنين، وأيضاً عملية التطهير العرقي التي تُمارَس ضدَّ أبناء القدس من أجل إجبارهم على الرحيل، وترك بيوتهم، وتراكم ديون الضرائب التي لا تُحتمَل عليهم، فيضطّر الكثيرون إلى الهجرة، أو إلى الانتقال خارج الجدار. أضف إلى ذلك الاعتقالات العشوائية، والإعدامات الميدانية، والتنكيل بالشُّبان والشّابّات، وإصدار الأحكام القضائية المرتفعة على الأطفال والفتيات. علاوةً على انسداد أُفق الحل السياسي بسبب التعنُّت الإسرائيلي الرافض لحل الدولتَين، والذي يرفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، ويعتبر القدس الموحّدة عاصمة دولة إسرائيل، وأكثر من ذلك فإنَّه يطالب السُّلطة الفلسطينية أن تعترف بإسرائيل دولةً يهوديةً، وهذه القضايا مرفوضة بكاملها لأنَّها تقضي على الأحلام الفلسطينية. ولا شكَّ أنَّ ما تعيشه المخيمات من أوضاع أمنية واقتصادية وهي التي تعصف بها ظروف أمنية بالغة التعقيد تضعها دائماً على حافة المخاطر والمخاوف. وهذا ما جعل أبناء شعبنا يعيشون على أعصابهم دائماً، وفي حالة عدم استقرار، إضافة إلى سقوط الشهداء والجرحى مما يشجِّع الأهالي على مغادرة المخيّم، وتكبُّد المتاعب، وتكاليف السكن الباهظة خارج الإطار الاجتماعي الذي اعتادوا أن يكونوا جزءاً أصيلاً منه، ومن أهله، وتقاليده، وهكذا تتجدَّد النكبة بعد النكبة مع فقدان الأمل بالاطمئنان أو الاستقرار.
ولعلَّ مخيَّم اليرموك بما حلَّ به من كوارث ومصائب لم تُبقِ من أهله سوى خمسة آلاف يعيشون ظروفاً قاسية ومأساوية، وهم يعيشون بين الدّمار والظّلام والجوع والعطش والاغتيالات، والذي ساعد على بقاء بعض المخيّمات في سوريا قائمة مع وجود أهلها هو الجهد الذي بذلته قيادة "م.ت.ف" وخاصّةً الرئيس أبو مازن مع النظام والمعارضة وإقناعهما بأنَّنا كشعب فلسطيني مع الحل السياسي وتوفير الدماء والضحايا وأنَّ بوصلتنا هي باتجاه فلسطين. أمَّا مخيَّم عين الحلوة، وما يجري فيه من تقاسم نفوذ جغرافي أمني عسكري، فأمنُهُ دائماً مهدَّد، وليس هناك استقرار دائم، وإنَّما الأزمات الأمنية المتقطّعة والمكلفة هي التي تقّض المضاجع.
يجري ذلك رغم أنَّه توجد قيادة سياسية من مختلف الفصائل الوطنية والإسلامية، وأيضاً هناك قوة أمنية مُشكَّلة من الفصائل، وهناك اجتماعات دائمة، وتواصل مستمر مع مختلف الجهات من أجل تنسيق المواقف، وخاصّةً من قيادة الجيش والأجهزة الأمنية والقيادات السياسية اللبنانية والفلسطينية، وسفارة دولة فلسطين، ورغم ذلك لم نستطع جميعاً التوصُّل إلى حلول جذرية حتى لا يصيب عين الحلوة ما أصاب مخيَّم نهر البارد.
إنَّ الأمر يحتاج إلى جهود مكثَّفة ومشترَكة من جميع الفصائل خاصّةً الذين لهم علاقات بشكل أو بآخر مع هذه المجموعات الخارجة عن الإجماع الفلسطيني، لأنَّ الطريق إلى حسم القضايا المعقَّدة القائمة يتم بطريقتَين. إمّا بالحوار السياسي المسؤول معهم، وإمّا بالإجراءات الأمنية الأخرى التي من شأنها منع ووقف عمليات القتل، ومحاصرة الحالات التي تُشكِّل خطراً، فالمخيّم إذا بقي على هذه الحالة فهو كالجسد النازف يضعف ويتلاشى ويتحوَّل إلى بؤرة للقتل والقتال والنزف والدماء.
نحن على ثقة بأنَّ القيادة الفلسطينية تشُقُّ طريقها بصعوبة نحو تحقيق الصمود، والانتصارات السياسية والقانونية، ومواجهة الاحتلال. والعالم اليوم يعزل إسرائيل، وينتصر لحقوقنا، لكن علينا أن نبحث عن وحدتنا الوطنية وأن ننجح في عقد مجلس وطني جديد، وأن ننهي الانقسام، ونجدِّد الشرعيات عبر الانتخابات، والنصر آتٍ آتٍ بإذن الله.