سمة تميز بها تيار فلسطيني واسع في أوساط النخب السياسية والحزبية والأكاديمية، عنوانها القفز عن المراحل والمحطات التاريخية واستحقاقاتها السياسية والدستورية والكفاحية، وتجاهل خصائص التجربة الوطنية، والاندفاع غالبًا نحو البعد الارادوي، والوقوع في دوامة الشكلانية الرغبوية، أساس ذلك النزوع يكمن في محاكاة واقع افتراضي ليس موجودًا، وحرق مراحل التطور الطبيعي للمجتمع الفلسطيني، والتماهي مع تجارب شعوب أخرى، بعيدة كل البعد عن التجربة الفلسطينية، والافتراض أن الشعب الفلسطيني بات متحررًا ومستقلاً، وأقام دولته السيدة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وبات صاحب القرار الوطني المستقل بعيدا عن التدخلات والاملاءات الداخلية والخارجية، والجميع يعلم أن نموذج السلطة الوطنية؛ لا يعدو أكثر من أحد أشكال الحكم الإداري الذاتي، ومن النماذج مسلوبة الإمكانيات والإرادة والسيطرة الفعلية على أراضيها وحقوقها السياسية والقانونية الدستورية، كونها ترزح تحت نير الاستعمار الإسرائيلي، الذي لم يعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ولا بإقامة دولته على ترابه الوطني.

لأن اعترافه في أوسلو بمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب، لا تحمل الأبعاد السياسية والقانونية الأخرى. كما أن اتفاقية أوسلو 1993 أبقت الملفات السبع الأساسية "الاستيطان الاستعماري، واللاجئين، والقدس العاصمة؛ والعودة، والحدود والمعابر، والأمن واسرى الحرية" لآجال بعيدة. رغم تحديد زمن المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، إلا أن إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية لم تلتزم بها، وأدارت الظهر لأية نقاط إيجابية تخص الشعب الفلسطيني، وراكمت على ما يخدم مصالحها الاستراتيجية، ثم انقلبت في زمن حكومات نتنياهو المتعاقبة على الاتفاقية من ألفها الى يائها منذ العام 1996. بالإضافة إلى أن إبقاء ملف الرعاية الدولية لعملية السلام بيد واشنطن، وتجاوز مكانة ودور هيئة الأمم المتحدة أفقد القيادة الفلسطينية الإمساك بدورة الزمن، ووقعت أسيرة فلسفة وسياسة الانتظار، كلما قدم لها الأعداء بعض فتات المواقف والمساعدات الواهية وغير ذات الجدوى، وحتى عندما حاولت في عام 2011 للحصول على دولة كاملة العضوية في مجلس الأمن الدولي، تصدى لها صانع القرار الأميركي قبل الإسرائيلي، إلى أن ذهبت في عام 2012 وحصلت على دولة مراقب، وبقينا في دائرة الانتظار إلى العام الحالي 2024، مستفيدين من اتساع حركة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية، وزيادة عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين بالذهاب إلى مجلس الامن مجددًا، وفشلنا في رفع مكانة دولة فلسطين لدولة كاملة العضوية، رغم تصويت 14 دولة لصالح القرار في المجلس، ثم ذهبنا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي صوتت على قرار بأغلبية 143 دولة يؤكد أهلية وأحقية الدولة الفلسطينية بمكانة العضو الكامل في الأمم المتحدة في 10 أيار / مايو الماضي. 

ورغم هذا الاعتراف الدولي، إلا أن حكومة الإبادة الجماعية الإسرائيلية تعمل بشكل حثيث ومتواصل ووفق خطة منهجية على استباحة الكيانية الفلسطينية الضعيفة أصلاً، وتبديد ركائزها، وشطب معالم حضورها على الأرض من خلال توسيع نطاق حروب الإبادة في قطاع غزة والضفة الغربية وفي مقدمتها القدس الشرقية. ومع ذلك، يذهب بعض القوى السياسية والأكاديمية إلى طرح شعارات، والمطالبة بإعلانات قانونية ودستورية، واقصد المطالبة بضرورة العمل على إصدار إعلان دستوري، وتشكيل مجلس تأسيسي للدولة الفلسطينية، بعد إعلان الرئيس محمود عباس أمام البرلمان التركي عن خطوته النوعية بالتوجه لقطاع غزة في 15 آب/أغسطس الماضي، وحتى طرحها البعض في حوار بكين 22 تموز/ يوليو الماضي. 
مع العلم، أن السلطة الوطنية التي أنشئت في أيار/مايو 1994 لها نظام أساسي "دستور مؤقت"، وانتخبت مجلس تشريعي لدورتين متتاليتين، إلى أن جاء انقلاب حركة حماس في أواسط عام 2007، وعطل دور المؤسسة التشريعية كليًا. وبالتالي لماذا الإعلان الدستوري؟ وما هي الفائدة المرجوة منه الآن؟ هل الدولة الفلسطينية استقلت، وبات الشعب سيد قراره على أرض وطنه؟ ولماذا المجلس التأسيسي الآن، وهناك هيئات منظمة التحرير الفلسطينية اللجنة التنفيذية والمجلسين الوطني والمركزي؟ هل نحن بحاجة الى المسميات والشعارات، أم نحن بأمس الحاجة لتفعيل الأطر الموجودة بين أيدينا؟ ولماذا يرفض البعض تولي المجلس المركزي دور التشريع، وهو الذي فوض بتولي مهام المجلس الوطني أعلى هيئة تشريعية فلسطينية؟ وهل عدم تمثيل بعض القوى مشكلة؟ أليس من الممكن دعوتهم وإضافتهم لعضوية المجلس لحين إعادة ترتيب شؤون البيت الفلسطيني، وأجراء الانتخابات البرلمانية في إطار حدود دولة فلسطيني، وانتخابات المجلس الوطني؟ ولماذا هذا التناقض في المواقف، مرة نريد تفعيل مؤسسات منظمة التحرير، ومرة نتحفظ على تولي المجلس المركزي دور التشريع، وهو الهيئة التشريعية الأعلى من المجلس التشريعي؟ 

باختصار شديد، ضرورة العمل على تفعيل دور هيئات منظمة التحرير وخاصة المجلس المركزي، وتوليه مركز التشريع في أراضي دولة فلسطين المحتلة، ومنحه الصلاحيات الكاملة لحين انتهاء المرحلة الانتقالية، التي يفترض أن تبقى حتى إزالة أخطار الانقلاب الحمساوي، وإعادة الاعتبار للوحدة الوطنية بين جناحي الوطن الفلسطيني، وبعد وقف الإبادة الجماعية على قطاع غزة، والشروع بإعادة الاعمار في ظل حكومة توافق وطني، أو باستمرار حكومة الدكتور محمد مصطفى الحالية، إذا تم التوافق على ذلك، ومع الذهاب لمؤتمر السلام الدولي لتكريس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967. والكف عن رفع شعارات والمطالبة بإعلانات، والابتعاد عن طرح مواقف تعطيليه لدور المجلس المركزي، والأهم العمل على تعزيز دور المقاومة الشعبية بأشكالها المختلفة. لأن العدو الإسرائيلي ماضِ قدمًا نحو توسيع دائرة الإبادة في الضفة الفلسطينية. لأنها مركز وجوهر مشروعه الصهيوني الاستراتيجي. لا وقت للترف الفلسطيني، ولا يجوز تبديد وتضييع الوقت، فإن لم نقطع الوقت الآن، سيقطعنا العدو الصهيوني.