في كتابه بالغ الأهمية والذي جاء تحت عنوان "الثقافة والإمبريالية" كشف المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد عن الدور الأساس للثقافة، بأدواتها، ووسائلها المنوعة، في استقرار الإمبريالية، وتمكينها من الهيمنة الاستعمارية وذلك لأن الإمبريالية بمفهومها اللغوي هي بسط النفوذ الأجنبي بكل مقوماته وغاياته الاستعمارية على أمة من الأمم. لكن الثقافة أيضًا حين الاعتراض والمجابهة، تكون ثقافة مقاومة، وهذا أيضًا حسب المفكر سعيد الذي رأى في هذه الثقافة قدرتها على هز أركان الإمبريالية. 

ثمة معاهد غربية، استشراقية في حقيقتها، واستشراقية بمعنى البحث الأكاديمي الغربي الذي مهد لاستقرار الإمبريالية، وهيمنتها على الشرق، طبقًا لإدوارد سعيد كذلك، في كتابه البليغ "الاستشراق"، هذه المعاهد تحت عناوين البحث والدراسة الخاصة بالشرق الأوسط، تواصل إنتاج ثقافة التمكين الإمبريالي، وتعمل في ذات الوقت على مجابهة ثقافة المقاومة في هذا الشرق، وما ثمة ثقافة مقاومة في الشرق العربي، غير ثقافة القضية الفلسطينية، بحكم تصادمها مع قيم ومفاهيم، وسياسات ثقافة العدوان، والاحتلال، والعنصرية، وبحكم طروحاتها الإنسانية والحضارية، التي جعلتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، خطابًا تنويريًا على الصعيد السياسي مكنها من الجلوس على مقعد الدولة المراقب في الأمم المتحدة، وثمة اعترافات دولية، بدولة فلسطين جاءت مؤخرًا لتؤكد حقيقة الثقافة الفلسطينية، بكونها ثقافة مقاومة في المقام الأول، وبالطبع من جعل كل ذلك واقعًا كان هو الرئيس أبو مازن في خطابه الحضاري، ولهذا صار خصمًا لدودًا لمنتجي الثقافة الإمبريالية، في هذه المعاهد الغربية، ذات التمويلات الفارهة، ولأن هذه الثقافة المعادية بأدواتها الإسرائيلية، والأميركية، ووسائل إعلامها، لم تستطع أن تنزع عن  الرئيس أبو مازن صفته، وحقيقته كرجل سلام، حتى إن المجتمع الدولي تعامل بازدراء مع توصيف "أفيغدور ليبرمان" للرئيس أبو مازن بأنه دبلوماسي إرهابي.

غير أن هذه المعاهد الغربية الاستشراقية، ما زالت تحاول النيل من الرئيس أبو مازن عبر كتابات لمنتسبيها تسميهم خبراء في شؤون الشرق الأوسط، وبعضهم من الذين تساقطوا من دوائر العمل السياسي، والدبلوماسي الفلسطيني، وغادروا الوطن إلى حيث عواصم التعالي الليبرالي بثقافته الإمبريالية، وتمويلاته الفارهة، وهذه المرة  بمحاولة اغتيال سياسي، ومعنوي، ومعرفي، للرئيس أبو مازن، من خلال إلحاق أسوأ النعوت والأوصاف بشخصيته، وحاله وطبيعته القيادية.

لم يكن الرئيس أبو مازن شعبويًا في أي يوم من الأيام، ولا بأي حال من الأحوال، وهذا في الواقع ما يغيظ خصومه وأعداءه سوية، إذ مع العقلانية والحكمة والوطنية الخالصة، التي تصوغ سياسة الرئيس أبو مازن، سيظل من الصعب على الخصوم والأعداء معًا إيجاد منفذ للنيل منه، بغير فبركة الاتهامات والتوصيفات التي هي محض تطاول منحط على الحقيقة بحد ذاتها، ومنها توصيفات واتهامات لا عقل لها، ومنها أن الرئيس أبو مازن أعطى الأولوية لاتفاق السلام على الوحدة السياسية الداخلية، شاطبا كاتبها بذلك أبرز الحقائق في هذا السياق، المتعلقة بحركة "حماس" وانقلابها على الشرعية برعاية إسرائيلية، وإقليمية، كان هدفه الاستراتيجي منع أي توحد فلسطيني، لمنع قيام دولة فلسطين، وهذا ما كشف عنه نتنياهو بمنتهى الصراحة والوضوح.

ولأن هذا اتهام لا محل له من الإعراب فذهب كاتبه إلى توصيف قد يجعل له ذلك المحل بالقول إن الرئيس أبو مازن بات حاكمًا مستبدًا. وهذا في الحقيقة أغرب، وأسخف وأحمق توصيف للرئيس أبو مازن الذي طالبه شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش ذات مرة أن يكون أقل سويسرية، في إشارة إلى ديمقراطيته البليغة.

أي استبداد فلسطيني ممكن، مع استبداد الاحتلال، أي استبداد ممكن لسلطة محاصرة، أي استبداد لقائد يمشي على مدار الساعة بين حقول الألغام. كُتاب هذه المقالات المأفونة يشتغلون على قاعدة "عنزة ولو طارت" وليس حتى على قاعدة غوبلز النازي "إكذب إكذب حتى يصدقك الناس".

ولأن "مجنون يحكي وعاقل يسمع"، سنعرف أن كتبة هذه المقالات، أتباع هذه المعاهد الاستشراقية في واشنطن وغيرها، إنما هم خبراء بالفعل، ولكن خبراء في سبل تهشيم الوطنية الفلسطينية، من خلال تشويه زعيمها، وقائد مسيرتها التحررية، وبفبركات أقل ما يقال عنها أنها وليدة انحطاط أخلاقي لا مثيل له، والقبيح في كل هذا الإطار، أن يتجاهل هؤلاء الكتبة، عمليات الذبح الإسرائيلية للشعب الفلسطيني، وقضيته الوطنية، ويتجاهلوا الحصار المفروض على السلطة الوطنية، والطعن الإسرائيلي المنوع فيها، ليكتبوا فقط ضد قائد حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وإدارته للصراع بالتعقل، والحكمة، والصلابة الوطنية والنزاهة الحاكمية، وهذا ما يجعل هؤلاء الكتبة محض خونة بالمعنى التقني للكلمة تمامًا.