هيئة الأمم المتحدة تأسست في أيلول/سبتمبر 1945 مع انقشاع غبار الحرب العالمية الثانية 1939 /1945، وكوريثة لعصبة الأمم التي انفرط عقدها 1938، وكانت الولايات المتحدة الأميركية صاحبة المبادرة في تأسيسها، باعتبارها أحد ركائز سياساتها للهيمنة على العالم، إلى جانب تأسيسها البنك وصندوق النقد الدوليين مع اتفاقية التجارة الحرة، بعد توليها زعامة المعسكر الامبريالي. ولكن سيرورة تطور الهيئة الدولية الأولى في العالم لم تسر وفق أهداف واشنطن، بعد انضمام عشرات الدول من القارات المختلفة إلى عضوية الجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى بلغ عدد الدول المنضوية تحت لوائها 193 دولة عاملة وعدد محدود جدًا من الدول المراقبة، منها دولة فلسطين المحتلة ودولة الفاتيكان. لأن الدول الأعضاء توزعت بين القطبين الدوليين، منظومة الدول الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة ومنظومة الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي، اللذين تبلورا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع مطلع تسعينيات القرن الماضي انهارت المنظومة الاشتراكية، وبات النظام الدولي وحيد القرن بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. مما أخل بمعايير المنظومة الأممية، نتاج استباحة واشنطن ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية والإنسانية الدولية وحقوق الإنسان عمومًا.
وكان من النتائج المعيبة والمخيبة للآمال في تاريخ هيئة الأمم المتحدة الاعتراف بدولة إسرائيل اللقيطة وفقًا لقرار التقسيم الدولي 181 الصادر في 29 تشرين ثاني / نوفمبر 1947، الذي أقر بإقامة دولتين فلسطينية عربية والدولة العبرية، وأهملت الاعتراف بدولة فلسطين العربية الأصلانية بسبب تجاهل القطبين الدوليين على حد سواء لمصالح وحقوق الشعب الفلسطيني في البداية، حيث سعت الدوائر الامبريالية لطمس هذه الحقوق كليًا، وتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية تتعلق بتقديم المساعدات الإنسانية، كمرحلة انتقالية حتى تتمكن من مؤامرة التوطين للشعب الفلسطيني في الدول العربية المحيطة بفلسطين، أو دول أوروبا وأميركا اللاتينية.

ونجم عن التحولات العديدة في صيرورة الهيئة الدولية الأولى في العالم، أرهاصات هامة في بنيتها، وتغيرت ملامحها مع صعود أقطاب دولية جديدة، وتنامي مكانتها الدولية، وأيضًا مع توسع قاعدتها بانخراط دول جديدة من العالم الثالث، وعلى مدار العقود الثمانية الماضية تصاعدت المطالبات من قبل العديد من الدول بضرورة تغيير مركبات هيئاتها الدولية، وعدم القبول بحصر حق النقض/الفيتو بالدول الخمس في مجلس الأمن الدولي، وغيرها من النواقص والمثالب، التي يعاني منها الميثاق والنظم واللوائح التي قامت على أساسها المنظمة الأممية.
وبالأمس الثلاثاء 24 أيلول/سبتمبر الحالي افتتحت أعمال الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحدث فيها عدد من زعماء الدول، بينهم الرئيس الأميركي جو بايدن، والملك الأردني عبدالله بن الحسين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وثلاثتهم طالب بضرورة العمل على تعديل الأنظمة الناظمة لعمل الهيئة الدولية، ومن المؤكد أن كلمات رؤساء الدول وممثلي الوفود المشاركة ستحمل في ثناياها المطالبة بمثل هذا التغيير، كل من موقعه ورؤيته وخلفيته بتغيير تلك القواعد والمرتكزات الأممية لعملها. لأن بقاء الآليات ذاتها، العاكسة لهيمنة واستباحة الولايات المتحدة للقانون الدولي لم تعد مقبولة من الغالبية العظمى من الدول، وأيضًا الولايات المتحدة تريد تغييرها بما يسمح لها بالوصاية على الهيئة الدولية، وتحقيق مآربها وأهدافها، التي سعت من أجلها لإنشائها، وبعد أن شعرت خلال الدورات السابقة تراجع قدرتها ونفوذها في التأثير على منظمات هيئة الأمم المتحدة المختلفة وخاصة الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وأظهرت الهيئات الأممية المختلفة بما فيها محكمتي العدل والجنائية الدوليتين عدم تمكنها من تمثل دورها الأممي في تنفيذ قراراتها الأممية نتيجة بلطجة وهيمنة ونفوذ الولايات المتحدة الأميركية على مقاليد الأمور في العالم، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن. كما القرار الدولي الأخير 2735 الصادر في 10 حزيران/يونيو الماضي لوقف الإبادة الجماعية على الشعب العربي الفلسطيني، والحرب التي اشعلتها دولة إسرائيل المارقة والخارجة على القانون الدولي على الجبهة اللبنانية، وسعيها لتوسيع دائرة الحرب الإقليمية لإعادة تشكل الشرق الأوسط وفق مشيئتها ومصالح سادتها في الغرب الرأسمالي بقيادة واشنطن.
كما أن التحولات الجيوسياسية العالمية، وانفتاح الأفق لإعادة تشكل المنظومة العالمية في بناء عالم متعدد الأقطاب، يملي على الجمعية العامة للأمم المتحدة، الهيئة التشريعية الأولى في العالم لإحداث ثورة في خارطة الهيئة الدولية بما يستجيب لمصالح العالم الجديد، والخروج من نفق الاستحواذ الأميركي ومن يدور فلكه، وضبط إيقاع أداة الغرب الرأسمالي إسرائيل، وإلزامها بتنفيذ القرارات الأممية، والكف عن الكيل بمكيالين، والابتعاد كليًا عن المعايير المزدوجة.
إذاً هل يشهد العالم في الدورة الجديدة التاسعة والسبعين ثورة حقيقية لتغيير آليات العمل، ورفع الظلم عن القوانين الدولية والقوانين الإنسانية الدولية، وإعادة الاعتبار لحقوق الإنسان، ومساواة الدول في مؤسسات هيئة الأمم المتحدة، ومنح الشعوب المنكوبة وفي طليعتها الشعب العربي الفلسطيني حقوقه الوطنية، واستقلاله على أرض وطنه الأم فلسطين؟ السؤال برسم دول العالم كافة، وبخاصةٍ الأقطاب الدولية النافذة، وصاحبة المصلحة الحقيقة في إحداث الثورة المطلوبة. لعل الأيام القليلة القادمة تجيب على السؤال، حيث ستنتهي أعمال الدورة الحالية في 30 أيلول/سبتمبر الحالي.