الفكرة الرئيسة التي نشأت عليها المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها الحديثة عام 1965 كانت أن المقاومة أو الثورة هي الطليعة وهي المقدمة للأمة العربية والإسلامية لتحرير فلسطين، بمعنى أن الثورة بمقدراتها المحدودة جلّ ما يمكنها فعله هو القتال والكفاح ، وفي إطار بعث ثم استمرار روح الرباط والثبات والصمود والمقاومة لدى الشعب الفلسطيني، وبالفكرة الرئيسة في البدايات مرتبطة بأولوية الكفاح المسلح اقتداء بثورات التحرر الأخرى التي نشأت المقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في حضن تجاربها وأفكارها.
منذ العام 1967م حيث النكسة وحتى العام 1973 كان الجو عروبيًا في ظل قيادة الرئيس جمال عبدالناصر الذي جرّ الأمة لضرورات التحرير. فكان أن أكمل خليفته الفعل بحرب أكتوبر 1973 بمشاركة الأمة العربية، ثم ما حصل منذاك من افتراق بالأمة بين من يؤمن بالتحرير العسكري ومن أوقف ذلك مقتنعا بحدود القوة، وأوراق اللعبة بيد أميركا.
خاضت الثورة صراعًا شديدًا مع دول عربية مختلفة لتكرس طليعتها وتقدمها بعيدًا عن استنكاف غالب الدول عن المشاركة المباشرة في الحرب العسكرية، فتمت مقاطعة مصر بعد "كامب ديفد" 1979م، إلا أن الخلافات في معسكر "الصمود والتصدي" لم تكن ذات ارتباط بضرورة الصمود والاستعداد للقتال بقدر ما كانت ذات ارتباطات هيمنة لنظام أو أنظمة أو زعامات عربية متصارعة.
بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد النهائية أصبح واضحًا أن تدمير إسرائيل عسكريًا بلا جيش مصر بعيد جدًا إلى حد الاستحالة، فتراكمت الأفكار المناوئة بضرورة التعامل مع الوضع القائم لتظهر الواقعية السياسية حيث العمل العسكري يزرع والعمل السياسي يحصد ومن هنا ظهرت مدرسة التسوية مقابل مدرسة الكفاح المسلح بأي ظرف من الظروف دون الالتفات للمتغيرات الكبرى اللاحقة من سقوط الحليف الكوني "الاتحاد السوفيتي"، واعتزال الجيش المصري الحرب، ثم ما كان لاحقًا من تدمير الجيش العراقي والجيش السوري لتضييق خيارات محور الكفاح المسلح، وبأن تصبح المساحة أوسع عند دعاة التسوية التاريخية.
تجربة التخلي العربي والعالمي الكامل عن المقاومة الفلسطينية عام 1982 كانت واضحة، إذ ظهر أن لا أمة لها صلة حقيقية بالشأن الفلسطيني، ولا الحليف الدولي مستعد أن يحارب لا عنك ولا معك، وهو ما يفعله بالمثل المحور الإقليمي اليوم في مجزرة فلسطين وخاصة بغزة.
لربما فهم الخالد ياسر عرفات المعادلة الإقليمية والعالمية المختلة مبكرًا، وهو الجنرال والسياسي في آن واحد فتفوق السياسي على الجنرال "القائد العسكري"، ودخل في مغامرة مباحثات مدريد ثم في أوسلو، وصولاً للاتفاقية المؤقتة لمدة 5 سنوات "تنتهي عام 1999م"، فدخل فلسطين.
لم تكد السنوات الخمس تنقضي حتى قُتل شريك السلام "اسحق رابين" من قبل المتطرفين اليهود الذين يحكمون إسرائيل اليوم، فانتهى الرِهان السياسي بالانتفاضة الكبرى الثانية إلى أن ظهر العالم منبهرًا وبنفس الوقت نائيًا بنفسه عن الدعم الفعلي للشعب الفلسطيني الوحيد بمقاومته، لندخل في مساحة ما اصطلح عليه اسم المقاومة الشعبية السلمية منذ العام 2005، والنضال القانوني والإعلامي والدبلوماسي حتى يومنا هذا.
الكفاح المسلح كطريق وحيد لتحرير فلسطين استوجب عمليًا حضور كل الأمة بقدراتها العظيمة وبوحدتها شعوبًا وقيادات، وهي القدرات التي تشتّتت وتوزعت اليوم كما تقول العرب "تشتت أيدي سبأ"، وبالمقابل فإن الاحتلال الصهيوني لم ينصع للقرارات الدولية ولا للعدل والحق بالقوة إثر نصف النصر كما أسماه الكاتب المخضرم سمير عطا الله، حين قال أنه في "حرب 1973 ربح العرب نصفَها وخسروا نصفها". ولا بعد اتفاقيات السلام على المتاح من أرض فلسطين والى اليوم.
الاحتلال الصهيوني لم ينصَع لاتفاقيات السلام "اتفاقية الحكم الذاتي المؤقتة المسماة تجاوزًا اتفاقيات أوسلو 1993-1995م"، نظرًا لتعملق الفاشية والإقصائية الصهيونية والدينية العنصرية، فكان الحوار الفلسطيني بالمقاومة الشعبية السلمية هدفًا لحل يُفضي لاستقلال دولة فلسطين، ولم يثمر الفعل إنجازًا فلا دولة استقلت على الأرض، ولا سلطة خرجت من مخالب السيطرة الصهيونية، فكان الانقلاب ضمن منطق جديد قديم ألا وهو "محور المقاومة والممانعة" الإيراني هذه المرة مقابل العربي الذي كان قد حسم أمره، فوقع الفلسطينيون ما بين حقائق الأرض وطموحات المستقبل أو البدء من حيث بدأ الأوائل دون إدراك لمعنى أن الأميركي أصبح يجاورنا مباشرة على شواطئ حيفا ويافا وغزة.
المُشرق في ظل النهايات المعروفة اليوم من افتراق وبعد مذبحة العصر في غزة (2023-2024م) أن كل الفصائل الفلسطينية ذات البدايات أو التي جاءت بالتاليات قد أدركت حدود الهدف باستقلال دولة فلسطين على المتاح من الأرض أي بحدود 1967، ولا أحد يقول غير ذلك "باستثناء الجهاد الإسلامي".
حيث لا يجب قط إهمال مفهومنا التعبوي والتاريخي الذي لا ينفك يؤكد على الفروقات بين الأرض والوطن، والكيان السياسي حتى النصر، فإن الوصول لهذه المرحلة، وإن بعد وعي مبكر أو متأخر وبعد انقلاب دموي، وتفتت على جانبي المحاور، وبعد عشرات الزيارات لعواصم العالم وبداية اندثار الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على الأوضح كان لزامًا أن يفضي إلى وضع علامة فارقة راسخة في الطريق ونبذ كل المختلفات وإعلاء شأن المتفقات.
دعوني أعود للعنوان مَن سيحرر فلسطين؟ وهنا يتوجب النظر قبل الإجابة بالمفهوم من أصله أو الهدف ومساحة الاتفاق عليه فلسطينيًا لننتقل عربياً ثم إسلاميًا، فلا نقع تحت سنابك خيل طموحات أو أحلام دول الإقليم ذات المصالح الخاصة بأنظمتها بعيدًا عن الحقيقة الواقعة وبعيدًا جدًا عن القضية، وبعيدًا عما نريده نحن في مقابل ما نستطيعه، أو ما يجب ألا ننساه إلى الأبد أن فلسطين لنا، وبما يتوجب إدامته من أفعال حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها