حقائق لا بد أن يعرفها الجميع، أن الروح الوطنية لغزة لم تفلح كل المحاولات في قتلها، لأن جذورها عميقة في نفوس الغزيين، فالسؤال: لماذا لم تقهر الروح الوطنية لجماهير الشعب الفلسطيني العظيم في قطاع غزة؟.

بعد نكبة عام 1948، بقي قطاع غزة وحده يحمل اسم فلسطين بعد أن شطبت هذه الأخيرة عن الخارطة وتم تمزيقها إربًا. غزة هي التي حافظت على الهوية، بعد أن تم تقاسم الشعب الفلسطيني وتقسيمه لجنسيات أخرى، وفي غزة نشأت المجموعات الفدائية الأولى بطابعها الوطني، والتي ألهمت مؤسسي حركة "فتح" في مسألة الاعتماد على النفس، من أجل تحرير إرادة الشعب الفلسطيني الوطنية وعدم ارتهانه لأي جهة غير وطنية فلسطينية.

زمن المهم الإشارة هنا إلى ما كتبه الراحل سليم الزعنون "أبو الأديب، وهو أحد مؤسسي "فتح"، في مذكراته، كتب قصة ذات دلالة، قال الزعنون: إنه وعدد ممن أسسوا حركة "فتح"، التحقوا بسن مبكرة بجماعة الإخوان المسلمين في القطاع، ويروي سبب تركه للجماعة بأنه عندما حاول أن يضيف كتبًا عن تاريخ فلسطين لمكتبة الجماعة، رفضوا وقالوا هذا ليس من أولوياتنا نحن، أي الإخوان، أولوياتهم الدعوة للدين.

ويقول أبو الأديب: منذ تلك اللحظة قررت ترك الجماعة والتفكير بتأسيس تنظيم وطني فلسطيني.

معظم قادة "فتح" المؤسسين مروا عبر قناة الوطنية التي زرعت في نفوسهم وعقولهم في غزة. خليل الوزير "أبو جهاد"، صلاح خلف "أبو إياد"، وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، وسليم الزعنون، والقائد الرمز ياسر عرفات ابو عمار.

وكانت غزة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بؤرة الوطنية الفلسطينية، وأسس فيها أحمد الشقيري جيش التحرير الفلسطيني، الذي دافع عن غزة ببسالة في حرب عام 1967، ولم يكن غير غزة من مكان يستطيع الشقيري التحدث بحرية وبروح وطنية مستقلة.

لكل هذا التاريخ الوطني لم تكن نتائج استطلاع الرأي الذي قام به مركز العالم العربي للبحوث والتنمية "أوراد" قبل أيام مفاجئًا، عندما تبين انحياز الغزيين الكاسح لوطنيتهم الفلسطينية، بالرغم من المأساة والكارثة الإنسانية التي يعيشونها، وبعد 17 عامًا من سيطرة حماس على القطاع، وكل محاولات غسيل الدماغ لمحو الوطنية الفلسطينية، إلا أن جميع هذه المحاولات فشلت، كما فشل الاحتلال الإسرائيلي وآلته الحربية المجرمة في كي الوعي الوطني لأهلنا في القطاع.

أكثر من ثلاثة أرباع أهل غزة قالوا بوضوح عبر استطلاع أوراد، أنهم يريدون سلطة الشرعية الوطنية، السلطة الوطنية الفلسطينية، ولا يقبلون بأي توليفة أخرى. ولا لعودة حكم حماس الذي أخذهم للكارثة والدمار دون أن يتحقق هدف وطني واحد.

لقد انحاز الغزيون لتراثهم الوطني المتجذر فيهم، عندما أتيحت لهم فرصة التعبير الحقيقية عن أنفسهم، ودون أن تأتي المراكز المأجورة لتزور إرادتهم، إن أي متابع لم يكن بحاجة لأي استطلاع ليعرف رأي الغزيين. بالرغم من أهمية هذا الاستطلاع في هذا الوقت بالتحديد، لكن من يتابع وجع الناس الحقيقي في غزة ويتابع نبضهم بعيدًا عن سطوة أي طرف، هم يختارون وطنيتهم الفلسطينية.

وفي ذروة حرب عام 1948، لم تجد الحركة الوطنية الفلسطينية في حينها مكانًا غير غزة لتعقد فيه المؤتمر الوطني الذي تمخضت عنه حكومة عموم فلسطين، وهي الحكومة التي وأدت مباشرة وقطع رأسها. ونحن هنا لسنا بصدد تقييم ما جرى قبل النكبة وخلالها وأين أصابت الحركة الوطنية وأين أخطات، ولكن ما يهمنا أن غزة كانت المربع الأخير للوطنية الفلسطينية بعد أن سقطت باقي المربعات الواحد تلو الآخر. وبعد النكبة حافظت غزة على بذرة الوطنية والتي نمت مجددًا مع تأسيس "فتح" ومن ثم منظمة التحرير الفلسطينية، لذلك لم يكن مفاجئًا أن تكون غزة منحازة لوطنيتها، ولفتح ومنظمة التحرير، لأنها هي من صان بذرة هذه الوطنية وعادت للنهوض مجددًا وستعود.

غزة العظيمة، يجب ألا تترك لبغاة وطغاة الأرض، لقد مدت غزة يدها الوطنية الفلسطينية فلنسهم بإنقاذها بقدر ما نستطيع.