لا يخرج التاريخ البشري عن الصراع بين الخير والشر، العدالة والظلم، الاستبداد والفضيلة، الدين والسياسة، وغير ذلك من التصنيفات الثنائية التي قد تعكس الفطرة البشرية الساعية نحو الكمال.

ولقد تمحور جل الفكر الانساني ومحاولات واجتهادات الفلاسفة والمفكرين في البحث عن الحكم الافضل، والحكم الرشيد، والحاكم العالم الفيلسوف، ودولة القانون والمواطنة الواحدة في مواجهة قوى وفكر متشدد متطرف عقيدة وايديولوجية يدافع عن الحكم المستبد، والحاكم الالهي الذي لا يخطىء.

ويتلخص هذا الصراع بين الدولة المستبدة والدولة الانسانية. وفي هذا السياق جاءت المحاولات من قبل الفلاسفة والمفكرين لتحديد ماهية الدولة الانسانية وفضائلها وسماتها ومقوماتها، وتحديد ماهية الحكم الانساني الذي قد يرادف الحكم المثالي او الرشيد او الحكم الديمقراطي، والمعيار في هذا الحكم هو الانسان. وهنا شمولية الفضائل بشمولية وكلية الانسان. والاساس في المنظومة الاخلاق والفضيلة، واختزال الحكم والحاكم في مفهوم او كلمة واحدة انسنة الحكم والحاكم. وهو مفهوم واسع وشامل، ومن هنا التقابل بين السلطة والحكم كحالة كلية شاملة غير قابلة للتجزئة والانسان كحالة كلية شاملة غير قابلة للتجزئة.

وهنا لا يمكن التعامل مع الانسان في جانب دون آخر او مكون دون آخر، والانسان مفهوم ينطبق على الرجل والمرأة والمفهوم له وحدانية المعنى. والانسان ليس مجرد جسد ورغبات فطرية غريزية بل هو روح وعقل وفكر ولسان. وعين يرى بها، وعقيدة ودين.

ومعادلة انسنة الحكم هي الاستجابة لهذه الكلية الانسانية مفادها ان الحكم اساساً وحتى الدين هو من اجل الانسان والرقي به، والسمو بفكره واعماره، الهدف من الانسان هو الاعمار والابداع والانتاج، والهدف من الحكم هو ايضاً توفير البيئة الحاضنة والداعمة للقدرات الانسانية ان تنطلق وتعمر، وغير ذلك يكون الحكم قد انحرف عن الهدف منه.

معيار ومؤشرات الحكم الانساني والدولة الانسانية هي بدرجة قربها من هذه المقومات والمكونات الانسانية. ودولة الانسانية هي نقيض للدولة المستبدة، الاولى لها فضائلها وسماتها اهمها: المساواة، العدالة والقضاء، الحقوق، المواطنة الواحدة، التكافل الاجتماعي، نبذ الكراهية والعنف، التسامح، الرعاية الانسانية للمعوقين وكفالتهم، حرية المعتقد والفكر دون اساءة لانسانية الاخرين، التوزيع العادل للثروة، محاربة الفقر، الرقي بالخدمات الانسانية من صحة ومياه نظيفة وبيئة حاضنة وليست طاردة، ونبذ الحروب، والتخلص من اسلحة الدمار والقتل الشامل، وغير ذلك من القيم الانسانية التي جاءت بها الاديان السماوية والشرائع الانسانية وكتابات الفلاسفة والمفكرين.

والسؤال هنا لماذا الدولة ككينونة سياسية بشرية عليا، ولماذا الحكم؟

اولا لان الدولة كمفهوم بشري هي اعلى درجات التنظيم البشري، وتقوم على مفهوم الهوية الوطنية الواحدة. وهي فكرة مجردة قد يجسدها الحكم الذي لا يحمل دلالات القمع والتكميم، لان الدولة وعبر أداتها للحكم هي من تملك مصادر الثروة والمال ووسائل الاكراه والقمع والمجسدة في السلاح، وهي كما وصفها هوبز وحش هائل، وهذا الوحش اذا ترك دون قيد او كابح سيزداد توغلا وتوحشاً، وهي الحالة التي وصفها بحالة الحرب الدائمة، وهي الدولة التي تنصهر فيها شخصية الانسان او المحكوم في شخص الحاكم، هنا الانسان غير معترف به، ويعامل كآلة صماء مجردة من اي حقوق. واذا نظرنا للتاريخ البشري من هذه الزاوية نجده لا يخرج كثيراً عن الحروب التي قد شنتها هذه الدول القومية للتوسع والنفوذ والثروة، واستعباد الشعوب الاخرى. وقد اقترن بهذه الحروب الفكر الشمولي والعنصري، والتفوق الجنسي، وارتبط بها الفكر الديني والفكر المطلق الذي دعم من فكرة الحكم المستبد والمطلق، ومفهوم الدولة المستبدة الخاضعة والمتفوقة.

وفي هذه الدولة المتوحشة ظهرت مفاهيم العبودية، والرق، والاحتلال والاخضاع، والعنصرية والاستعلائية، ومفهوم الرجل الابيض، ومفاهيم التخلف وما صاحب كل هذه المفاهيم من مفهوم الدولة المستبدة الظالمة المتوحشة، وفيها لا وجود لمفهوم الانسان والانسان مجرد آلة لجر الحكم.

الصراع البشري لم يخل من صراع من اجل الدولة الانسانية الديموقراطية، والدولة المستبدة، والتي انتصرت فيه الاولى، تاريخ اوروبا لم يخرج عن هذا الصراع الذي اريقت فيه دماء كثيرة حتى تمكنت الدولة الانسانية الديموقراطية من ترسيخ جذورها بمقومات كثيرة اهمها النضج الانساني، وتوفير المقومات الدستورية، والمجتمعية بتوفر المؤسسات القوية القادرة على كبح جماح الدولة المستبدة، وبالفكر الحر، وبالتأكيد على انسانية الحكم، وبتبني مفاهيم العدالة الانسانية والمحاسبة والمساءلة والمراقبة، وبالتالي تحول الحكم والحاكم أداة لتحقيق هذه المقومات، يحاسب على قدر قربه وبعده عنها.

واليوم في الحالة العربية تتجدد هذه الصورة، ولا تخرج ثورات التحول العربية عن هذا الصراع البشري بين الدولة الانسانية والدولة المستبدة، بين طبائع الاستبداد التي التصقت بأنظمة الحكم العربية على مدار عقود كثيرة حرم فيها الانسان من ابسط حقوقه الانسانية، وطبائع الفضيلة التي تعيد للحكم العربي روحه الانسانية، هو صراع من اجل التخلص من مفهوم الدولة المستبدة والحاكم المستبد، في كل صوره الدينية والبشرية، فالحكم والدولة غايتها المصلحة العامة او الانسان الذي من اجله نزلت الرسالات السماوية، ودونت الوثائق الدولية التي حمت الحقوق الانسانية، وهي الدولة التي تلتزم وتحترم آدمية الانسان خلال تبني كل ما يتعلق بهذه الادمية من حقوق منصوص عليها في الاديان، والمواثيق الدولية الانسانية، واساسها المواطنة الواحدة التي لا تفرق بين رجل وامرأة، وبين دين وآخر، وبين اقلية واخرى والكل سواسية في الحقوق والمواطنة.

هذه هي الغاية من الحكم، والتي من اجلها اندلعت ثورات التحول العربية، وستبقى قائمة الى ان تستقر الدولة الانسانية وتختفي مقومات الدولة المستبدة، وتنتصر طبائع الفضيلة على طبائع الاستبداد، وهذا قد يحتاج لوقت وثمن كبير يدفعه انسان هذه الشعوب.