في الزمن الفلسطيني الطويل، كان "التحرير" هو الحلم، والمخيم مجرد محطة انتظار، والموت "مجدًا" إن جاء في سبيل الأرض. لكن في غزة، بعد تسعة عشر شهراً من حرب الإبادة، تغيّرت المعادلة، انقلبت المفردات، تبدلت الأولويات.
لم يعد الناس يتحدثون عن تحرير القدس، أو العودة إلى حيفا ويافا، لم يعودوا حتى يسألون عن مستقبل الدولة أو المشروع الوطني، السؤال اليوم أكثر بساطة، وأكثر قسوة: "هل سنبقى أحياء حتى الغد؟".
في شوارع مخيمات النزوح، وفي الأزقة المهدّمة، وبين الخيام المتكدسة على الحدود، لا تسمع أحاديث عن السياسة أو الجغرافيا أو خرائط المفاوضات. تسمع فقط: "هل دخلت شاحنة دقيق؟"، "أين الماء؟"، "هل بقي دواء لابني؟"، و"من الذي مات هذا الصباح؟".
الناس لم يفقدوا فقط بيوتهم وأجسادهم وأبناءهم، بل فقدوا اللغة التي لطالما كانت تُعطي للموت معنى.
حتى الأمل تآكل، صاروا يخافون من الليل، من الجوع، من العتمة، من القصف، من الوقت نفسه.
وأسوأ ما في الكارثة، أن الإنسان حين يُرهَق من الصمود، يبدأ بالقبول بأي شيء يُبقيه على قيد الحياة، حتى لو كانت هدنة مهينة، أو تسوية ناقصة، أو وعودًا بلا ضمانات.
في غزة اليوم، الناس لا يبحثون عن التحرير، لا لأنهم تخلوا عن قضيتهم، بل لأنهم يُصارعون البقاء، التحرير صار ترفًا فكريًا مؤجلاً أمام مشهد المجاعة، والدم، والعتمة، والموت البطيء.
- عندما تنكسر إرادة النجاة
وهذا هو الخطر الحقيقي: أن ينكسر الشعب من داخله، أن يُربّى الجيل الجديد على الخوف لا الكرامة، على الصمت لا الكفاح، هذا أخطر من القنابل، وأقسى من الحصار.
الاحتلال يعرف ذلك، ولذلك لا يُمانع في إطالة أمد الحرب، فهو لا يبحث فقط عن انتصار عسكري، بل عن هزيمة نفسية كاملة، تحول "التحرير" إلى ذكرى بعيدة، وتحول المقاومة إلى جملة غريبة على الألسنة.
الناس في غزة الآن يريدون "تذكرة نجاة"، أيًّا كان شكلها، وأيًا كانت كلفتها. يريدون فقط أن يعيشوا، أن يأكلوا، أن ينجوا من لعنة هذا الوقت العربي المهزوم.
لكن من الخطير أن نبني مشروعًا وطنيًا على أنقاض الخوف، أو على رماد الوجع. لذلك، لا بد من أن يُطرح السؤال الكبير: متى يتوقف القتل، كي نستعيد القدرة على الحلم من جديد؟.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها