منذ بداية عام 2011 وعندما انبثق واقع عربي تغييري مختلف واستثنائي، وقامت ثورات، وحراكات، وانتفاضات، في أكثر من قطر عربي، ونحن على صفيح ساخن، نتحاور على عدة مستويات، ونتطارح الأفكار المضادة، في احيان قليلة من اجل الفهم والاستبصار والمعرفة، وفي أحيان أخرى كثيرة من أجل اثارة اشكاليات زائفة وقديمة، أو استدعاء لتراث سلبي كان قد تشكل في الأفق العربي في مراحل تجابه مختلفة، وأنشأ ظلامية استثنائية في عقل الساسة والمواطنين العرب، وأرى أننا نخفق ونتورط الآن مجددا في كلا الحالتين : حالة مقاربة الوقائع والظاهرات، بالفهم والنقد والاستنتاج والعبور الى مرحلة جديدة، وحالة استعادة الميراث السلبي، وتأجيج الفتن والمشاحنات، والشجارات في ظل واقع عربي مفتت ومنقسم، ذلك أن المستوى الأول(مستوى النقد والفهم) يحتاج الى ثقافة سياسية نقدية مغايرة، وخطاب مختلف يدخل الى جوهر القضايا ويفكك دواخلها، وعناصر اشتغالها، بأداة وعقل نقدي متقدم، ينقل القضايا الى مستوى جديد من الفهم، والمستوى الثاني(الماضوي – الظلامي، التشاحني)، هو تحريش وتحريض واصرار على البقاء في المربعات الأولى، والدوران في الحلقات المفرغة وهي هواية وجوهر الفكر اليومي والسطحي السائد، الذي حول الحياة العربية الى مهاترات وشجارات دائمه توحي بالتراجع والافلاس وانسداد الأفق، والانحطاط. وأسوأ الحوارات الدائرة الآن هو مناقشة البديهيات في الواقع العربي، وهو ما قالت عنه العرب في معنى الذمّ (شرح الواضحات من الفاضحات) (مع الشعب والوطن أم مع الأنظمة؟، مع الحل الوطني الداخلي، أم مع استدعاء التدخل الأجنبي؟، مع الديموقراطية، أم مع الاستبداد؟)، وهي ظاهرة تؤشر على انحلال وتراجع، وانكفاء، وسوء فهم وتحليل، ولا تشير الى أي تقدم في الفكر والتفكير، والأسوأ منها الحوارات القائمة على الفقاعات الفكرية، والمعتمدة على سطحية الفكر الدعائي الفضائي العابر، وتحويل العاملين في الفضائيات العربية الى أساتذة في التنوير، ومرجعيات للكثير من الحوارات السطحية السائدة. وترافق ذلك مع هجرة وابتعاد وعزوف عن اخذ الحقائق من منابعها وبطونها، واندغام وانهمام، وترويج للأفكار الشريدة والطائشة التي تلقى على عواهنها في اجهزة الاعلام الموجهة والمسخّرة للتلاعب في العقول والتحكم بها؛ اننا الآن أما مشهد سياسي – ثقافي، ووقائع، وأحداث، وثقافة صورة، يخلقها الاعلام الفضائي، وقد تحول في العقل العربي الى مرجعيات ومصادر للمعلومات الناجزة، أصبحت تصبغ الحوارات العربية الراهنة بصبغتها، وتديرها على هواها وطبقا لأجنداتها، وتؤدي بالتالي الى هذا اللون من التشويه والتزوير الاعلامي وتضليل العقول، الذي يؤخر بزوغ المعرفة والخطاب العقلاني الجديد. ونحن هنا لا نعادي الاعلام المتطور والمُتحضر الذي أنشأته الفضائيات على الصعيد التقني والتنويري العام، وانما نشير الى الضلال والظلال التي تركها هذا الاعلام على الوعي العربي، عند انحرافه عن ادواره التنويرية، وتحول الى أداة في خدمة الانحطاط والتراجع العربي بطرائق مستحدثة. ومن يشاهد برنامجًا مثل: (الاتجاه المعاكس) سوف يؤيد ما نقول، ذلك أننا نرى وكأن الحوار المطلوب والمبرمج في الفضائيات يريد من الحوار العربي، أن يكون شجارًا، ومقاطعة الحديث بفجاجة، وتطاولاً، وعدم انصات، وتضليل، وقلة دقة وكياسة، وثقافة، ومعرفة، بحيث يكون هذا انموذجا للفضائيات الأخرى التي أصبحت تتنافس بدورها، على أصحاب ونجوم الحوارات الهابطة، والأصوات العالية التي تفتقد الى أي مستوى من مستويات الثقافة السياسية المرجوّة للارتقاء بسوية المواطن العربي ووعيه. نحن اذن في حالة خلل في التحاور والحوار والتواصل، والوصول الى مستوى جديد من الفهم والتحليل، ونحن ايضا نكرس تقاليد ثقافية بالية في ممارسة النقد وصوغ وصنع الأفكار، ونحن في نهاية المطاف لن نصل الى أي يقين سياسي يعيد لنا التوازن والاتزان في الفكر و في التعقل والاستبصار، وسوف تبقى هذه الأصوات الناعقة في الفضائيات وغيرها من وسائل الاعلام، تؤسس للردّة والخراب، وسوف نبقى بعد مرور قرن، نتوق ونتحسر على تلك الحوارات القديمة التي أسسها ومارسها، دعاة النهضة في القرن المنصرم،عندما أنشأوا بيئة فكرية تحررية - موضوعية – ديموقراطية – عقلانية للحوار، وتجادلوا بالتي هي أحسن وأرقى وأكثر حكمة وتنويرا.
لقد أنتجت حواراتنا المتناقضة المتصارعة الحالية بيئة غير صحية للثقافة الوطنية والقومية الجديدة البديلة، وحكمت على فكرنا بالعقم والسطحية والضحالة، وأعدمت فرصا كثيرة في اشتقاق افق ومناخ مناسب لحوارات العرب، وحالت بين الناس وبين الوعي العميق المطلوب في المرحلة الراهنة. كما أنتج المثقفون بيئة وشبهة اتهام لهم بالخيانة والانحراف عن دورهم، والزوغان عن الحقائق، وتكريس الأوضاع الانحطاطية السائدة، وتلك بحد ذاتها أزمة كبيرة سوف تؤثر على المثقف ودوره، وعلى الثقافة ودورها في التغيير! يريد نقد الحوارات العربية الحالية ويرنو الى مراجعة أطر المعرفة، والمفاهيم، والمصطلحات، واجهزة الفهم وأدواته، والثقافة السياسية المأزومة والمتأزمة السائدة، حتى تتمكن الأمة من اشتقاق ثقافة عقلانية، تقوم على الحوار والمراجعة، واحترام الحق بالاختلاف وشرعيته، واحترام الرأي الآخر، واجتراح وسائط للتواصل والاتصال، والارتقاء بالوعي العربي ليكون في مستوى المرحلة وتحدياتها، مُندغمًا فيها وفي العصر وتحدياته وقضاياه الشائكة، مدركا لدوره، متطلعا الى فتح أفق دائم ورحب نحو المستقبل.
القمم العربية والحوارات الفاشلة وشرح الواضحات من الفاضحات: بقلم جمال محمد أبو نحل

26-09-2015
مشاهدة: 1251
جمال ابو النحل
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها