مع تصاعد الجرائم الإسرائيلية بحق شعبنا الفلسطيني ووقف دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة والتلويح بالعودة إلى عدوان الإبادة بموافقة أميركية، ووضوح المخططات الهادفة إلى بداية ضم مناطق المستوطنات وفرض تهجير قسري جديد واستمرار تدمير المخيمات وتهجير الأهالي. يجد القادة العرب أنفسهم أمام اختبار تاريخي في القمة العربية المرتقبة بالقاهرة. هذه القمة تأتي في وقت تحاول فيه واشنطن وتل أبيب إعادة رسم ملامح المنطقة وفقًا لمشروع "الشرق الأوسط الجديد"، حيث يجري الدفع باتجاه ترتيبات سياسية واقتصادية وأمنية، تتماشى مع المصالح الإسرائيلية والأميركية على حساب قوى الاستقلال الوطني. فهل يدرك القادة العرب خطورة هذه المرحلة؟ أم أن القمة ستتحول إلى مجرد محطة أخرى لإصدار بيانات تكرر نفسها؟.
- إبادة جماعية وتهجير قسري، المخطط مستمر
المخططات الإسرائيلية - الأميركية تتجاوز فكرة السيطرة العسكرية إلى محاولة فرض تغييرات جذرية على الجغرافيا السياسية والديموغرافية للمنطقة. ما يحدث اليوم في غزة والضفة الغربية ليس سوى مقدمات لإعادة إنتاج نكبة جديدة، من خلال الضغط على شعبنا الفلسطيني، وتحويل الدول المجاورة، خاصةً الأردن ولبنان، إلى ساحات تصفية للقضية الفلسطينية عبر مشاريع التوطين والتهجير.
ففي لبنان "كنموذج"، تسعى إسرائيل إلى تصفية المخيمات الفلسطينية هناك، وتحويل اللاجئين إما إلى مواطنين لبنانيين أو تهجيرهم إلى دول أخرى، في محاولةٍ لإنهاء حق العودة وتصفية الوجود الفلسطيني في الشتات كلاجئين يملكون حق العودة وحل قضيتهم وفق القرار 194 الأممي.
أما في الأردن التي تقع اليوم في عين العاصفة، فتواجه المملكة ضغوطًا هائلة لقبول دور "الوطن البديل"، حيث يتم الدفع باتجاه إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين بشكل نهائي، في سياق مشروع أميركي - إسرائيلي يسعى لتفكيك القضية الفلسطينية وتحويلها إلى قضية داخلية أردنية.
وفي سوريا التي ارتضى نظام الأمر الواقع فيها اليوم بعد غزوته، أن يكون تحت الابتزاز، رغم استمرار عدم الاستقرار فيها. فإن دمشق تواجه تحديات جديدة، إذ تعمل الولايات المتحدة على فرض ترتيبات سياسية وأمنية بالتنسيق مع تركيا، قد تشمل محاولة فرض اعتراف رسمي بإسرائيل بعد الانتهاك المستمر لأراضيها.
- مواقف عربية بين الإدراك والتجاهل
يدرك القادة العرب أن القضية الفلسطينية ليست مجرد ملف سياسي، بل هي جوهر الصراع في المنطقة. لكن الإشكالية الكبرى تكمن في غياب الإرادة السياسية لترجمة هذا الإدراك إلى مواقف عملية. فبعض الدول العربية ترى في التطبيع مصلحة استراتيجية، بينما تتحرك أخرى ضمن حسابات توازن القوى مع الولايات المتحدة، دون إدراك أن التكيف مع هذه السياسات لن يحمي أحدًا من تداعياتها المستقبلية.
في ظل هذه الظروف، تصبح القمة العربية المقبلة لحظة حاسمة. فإما أن تتبنى موقفًا واضحًا في مواجهة مخططات التهجير والتصفية، أو تستمر في إصدار بيانات مكررة لا تقدم شيئًا سوى تبرير العجز العربي بالوصول إلى موقف مشترك يتسم بالإرادة والاستقلالية.
- المنطقة أمام مفترق طرق
الرهان الأساسي يبقى على مدى القدرة في مواجهة السياسات الأميركية. عبر العقود الماضية ثبت أن القدرة على إفشال المشاريع الإسرائيلية والأميركية ممكنة في المنطقة. ومع ذلك، تدرك واشنطن وتل أبيب أن المواجهة العسكرية وحدها لن تكون كافية لإضعاف رفض ومواجهة سياساتها، لذا تم العمل على محاصرة القوى المعارضة لها ومحاولة إنهائها بالمنطقة، عبر فرض الحرب عليها ومحاولة عزلها إقليميًا ودوليًا بدعوى الإرهاب، وخلق بيئة داخلية معادية لها في الدول التي تحتضنها.
لكن هل ستنجح هذه المخططات؟ التاريخ أثبت أن كل مشروع استعماري، مهما بلغت قوته، مصيره الفشل أمام إرادة الشعوب. ما نحتاجه اليوم هو استراتيجية سياسية متماسكة، تعزز وحدتنا الداخلية، وتعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد وصاحبة الولاية السياسية والقانونية على أسس تقوم على استقلالية القرار الوطني والإرادة السياسية للتحرر الوطني وإنهاء الاحتلال، بعيدًا عن أي تدخلات إقليمية أو دولية.
- القمة العربية، فرصة أخيرة أم إعلان فشل
إذا استمر القادة العرب في تبني نهج المهادنة، فإن المخططات الصهيونية ستتقدم، وسيجد العرب أنفسهم أمام واقع جديد، تُفرض فيه تسويات إقليمية تُنهي القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وتهدد الاستقرار الأمني الوطني للدول الشقيقة . لكن لا تزال هناك فرصة لإعادة تصحيح المسار، عبر اتخاذ قرارات واضحة ترفض التوطين والتهجير، وتعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية عربية مركزية، لا مُجَرد ملف دبلوماسي يُتداول في بيانات ختامية بلا أثر، ولا اعتبارها قضية داخلية لبعض الدول العربية.
القمة العربية لن تحسم وحدها مصير غزة، لكنها ستكون محطة مهمة في بلورة التوجه العربي الرسمي تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية ودورها في قطاع غزة. من المرجح أن تشهد القمة توافقًا على إعادة السلطة إلى غزة، لكن التنفيذ سيعتمد على قدرة الدول العربية على فرض تفاهمات فلسطينية داخلية لإنهاء ملف الانقسام وفق قواسم مشتركة من الرؤية والمسوؤلية الوطنية لحماية شعبنا.
- مسؤولية عربية وفلسطينية
المنطقة تمر بمرحلة إعادة تشكيل قسرية، لكن ما سيحدد مصير هذا المشروع ليس فقط قوة من يسعى لفرضه، بل مدى قدرة القوى العربية والفلسطينية على مواجهته. القمة العربية قد تكون بداية لصحوة سياسية، تعيد توجيه البوصلة نحو القضية الفلسطينية، أو قد تتحول إلى محطة أخرى في سلسلة التراجعات العربية. الخيار بيد القادة العرب، لكن الشعوب تدرك أن التاريخ لا يُكتب بقرارات المؤتمرات وحدها، بل بمقاومة التحديات المفروضة والثبات والصمود.
وليكن في قرارات قادة جنوب إفريقيا وماليزيا وكولومبيا مثالاً على ذلك بأقل الإيمان.
- الاستفادة من التحولات الدولية الجارية
إن التأثيرات الناجمة عن التحولات والعلاقات الحالية تشير إلى بداية نظام دولي متعدد الأقطاب، حيث الولايات المتحدة وروسيا والصين ستكون جميعها قوى مؤثرة في الشرق الأوسط، مع الدور المتزايد للاتحاد الأوروبي اليوم في تحدي المواقف الأميركية والخلافات معها، والذي سيقود إلى علاقات دولية دون دور احتكاري للولايات المتحدة. الشرق الأوسط سيشهد تعددًا في الخيارات وتحولات استراتيجية قد تؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات، وتوازنات القوة الإقليمية. بينما ستظل الولايات المتحدة قوة محورية في إطار هذه التحولات وتعددية القطبية، إلا أنها لن تتمكن من الانفراد بتشكيل المنطقة وفق مصالحها ومصالح إسرائيل فقط. هذا الأمر قد يتيح لجميع اللاعبين في المنطقة إلى التفاوض وتوسيع تحالفاتهم مع قوى دولية أخرى للحفاظ على مصالحهم في هذا النظام الجديد، وتغير قواعد اللعبة من خلال التوقف عن استرضاء الولايات المتحدة دون نتائج نظرًا لطبيعة علاقة الشراكة الاستراتيجية مع إسرائيل والتي لن تكون شبيهة بما حصل مع أوكرانيا لاعتبارات مختلفة أهمها عقائدية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها