سابقة خطيرة في العلاقات الديبلوماسية العالمية شهدها البيت الأبيض الأميركي مساء يوم الجمعة 28 شباط/فبراير الماضي، في المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيس دونالد ترمب وضيفه الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، حيث احتد النقاش على الهواء أمام وسائل الإعلام بين الرجلين، بعد رفض الأخير التوقيع على وقف إطلاق النار مع روسيا الاتحادية دون الحصول على ضمانات أمنية، مما دعا الأول إلى القول "عليك التوصل إلى اتفاق وإلا سننسحب". وأضاف الرئيس الأميركي بحدة: "تصريحاتك تفتقر بشدة إلى الاحترام". مما فاجأ الرئيس الأوكراني من الطريقة الفجة، التي خاطبه فيها مضيفه سيد البيت الأبيض، وتابع: "وأنت لست في موقع لفرض إملاءات علينا، جنودك يتناقصون، وأنت تخبرنا أنك لا تريد وقف إطلاق النار". وأردف قائلاً: "ما تقوم به يظهر قلة احترام للولايات المتحدة، بلادك في ورطة، وأنت لا تنتصر في الحرب". وحينها دخل نائب الرئيس الأميركي، جيه دي فانس على خط المشادة الكلامية العاصفة، وقال: "من قلة الاحترام أن يأتي زيلينسكي إلى البيت الأبيض ويجادل أمام وسائل الإعلام الأميركية".
ولم يقف زيلينسكي صامتًا أمام الرجلين، اللذين حاولا فرض الإملاءات عليه، وأكد أمامهما: "أنه ينبغي توفير الضمانات الأمنية لأوكرانيا، ولا يمكن الحديث عن اتفاق وقف إطلاق النار فقط، وأضاف: "أجرينا محادثات مع بوتين، ووقعنا اتفاقًا لوقف إطلاق النار، لكنه انتهك هذا الاتفاق". وعلى إثر ذلك غادر زيلينسكي البيت الأبيض، إلا أن قناة "فوكس نيوز" نقلت عن مسؤولين في الإدارة الأميركية، أن ترمب قام بطرده، ولم يغادر لأنه أراد ذلك".
وبغض النظر عن كيفية مغادرة الرئيس الأوكراني، إن كان غادر بإرادته، أم طرده الرئيس الـ47، إلا أنه رفض الانصياع للقرار الأميركي، في تحدٍ واضح له، وكسر الجرة معه، وخرج منتصرًا لقراره، ولأوروبا كلها، التي كان زعمائها ضد الرؤية الأميركية في طريقة حل الصراع الروسي الأوكراني، لأن لهم رأي آخر متناقض مع التصور الترمبي.
وفي أعقاب المشادة حامية الوطيس في البيت الأبيض، علقت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس على ذلك، في تدوينة حادة وقوية على حسابها على منصة "إكس"، في حاجة "العالم الحر" إلى زعيم جديد، في إدارة ظهر واضحة لزعامة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وأضافت: "أوكرانيا هي أوروبا، نحن نقف إلى جانب أوكرانيا". وتابعت: "سنكثف دعمنا لأوكرانيا حتى تتمكن من الاستمرار في محاربة المعتدي". بحسب وصفها، وأكدت كالاس أن "الأمر بيننا نحن الأوروبيين لخوض هذا التحدي".
ولم يقتصر الموقف الأوروبي على موقف كالاس، إنما صرح قادة أوروبا جميعهم دعمًا للرئيس الأوكراني على موقفه الصلب أمام ترمب وفانس، الذي رفض الاعتذار عن موقفه في لقاء مع "فوكس نيوز" يوم الجمعة في أعقاب مغادرته البيت الأبيض، وقال: "لست مدينًا بالاعتذار للرئيس الأميركي". ودعمًا لزيلينسكي عقد قادة أوروبا قمة مصغرة أمس الأحد 2 آذار/مارس الحالي في لندن، التي توجه لها مباشرة الرئيس الأوكراني، حسب شبكة "سي أن أن" الأميركية، وشكر حلفائه الأوروبيين على دعمهم له.
كما أن 14 حاكمًا ديمقراطيًا في الولايات المتحدة أعربوا في بيان مشترك عن التضامن مع أوكرانيا أمس السبت. وجاء في بيانهم، إن الرئيس دونالد ترمب، ونائبه جيه دي فانس استخدما البيت الأبيض لتوبيخ الرئيس الأوكراني بسبب "قلة ثقته في كلمة الرئيس فلاديمير بوتين". وأضافوا: "يجب أن يحمي الأميركيون قيمنا الديمقراطية على الساحة العالمية بدل تقويض عمل الرئيس زيلينسكي للقتال من أجل وطنه وحرية شعبه، بعد تعرض بلاده للغزو من جانب روسيا".
بعيدًا عن الموقف الشخصي من الحرب في أوكرانيا، تملي الضرورة الاعتراف بأن هذا الرجل الذي جاء للرئاسة من عالم الفن المسرحي، بدعم وتزوير للانتخابات من قبل الولايات المتحدة عام 2019 خلفًا للرئيس بترو بوروشنكو، حليف روسيا الاتحادية، ورغم ذلك، لم يرضخ لإملاءات الإدارة الأميركية، وتحدى ترمب في عقر مقره الرئاسي في واشنطن. مما عزز موقف دول الاتحاد الأوروبي الرافضة للتوجه الأميركي الجديد، المتناقض مع توجهات إدارة بايدن السابقة، وأيضًا فتح الأفق أمام زعماء العالم ليرفعوا الصوت في وجه ترمب، الذي يفترض في نفسه، أنه "الرب" الذي لا يرفض له موقف. كما أن ما حصل يؤكد للقاصي والداني، أن كون زيلينسكي من اتباع الديانة اليهودية، لم تغفر له زلته الخطيرة، وهنا تبرز المفارقة بين إسرائيل الدولة اللقيطة والخارجة على القانون، والمغتصبة للديانة اليهودية، أن دعمها لم يأت كون غالبية سكانها من اتباع الديانة اليهودية، إنما لأنها تمثل الخندق المتقدم للإمبريالية الأميركية، وحامية مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط، وكونها أداة وظيفية في خدمة تلك المصالح، مع إدغام ذلك بالأساطير اللاهوتية الافنجليكانية.
ومما لا شك فيه، أن موقف الرئيس الأوكراني سيساهم في تعميق المواقف العربية الرسمية، التي رفضت خطة ترمب الداعية للتهجير القسري لأبناء الشعب الفلسطيني من أرض وطنهم الأم فلسطين، وخاصة مواقف كل من مصر والأردن والسعودية وغيرها من الدول الشقيقة في القمة العربية الطارئة المرتقبة يوم بعد غدٍ الثلاثاء 4 آذار/مارس الحالي. ومن المؤكد، أن الرئيس الأوكراني استفاد من المواقف العربية، التي رفضت الإملاءات الأميركية.
كما سيكون لهذه المواقف ارتدادات عالمية أخرى، وستؤثر على مكانة ترمب، الذي لا يتورع عن الخروج عن المألوف في العلاقات الديبلوماسية مع زعماء ودول العالم، ومبدئيًا أؤكد، أن العالم الغربي لن يكون كما كان قبل وصول ترمب.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها