على امتداد أربع وخمسين سنة من عمرها المديد بإذن الله،وصراعها القاسي مع أعداء فلسطين، وأولهم إسرائيل والاحتلال الإسرائيلي، وفي اشتباكهاالمستمر والدموي أحيانا مع كل الذين لا يريدون قيامة الهوية الوطنية الفلسطينية منموتها، ولملمتها من شتاتها المأساوي، فإن حركة فتح هي التي قادت التغيير الجذري فيحياة الشعب الفلسطيني بعد النكبة، وهي التي بدأت مسيرة حضوره بقوة على مسرح الأحداثالكبرى، وهي التي حمت الفلسطينيين من الذوبان والتماهي في الآخر مهما كان شقيقا أوصديقا، والانبثاق به في حالة وطنية مستقلة، ليس من قبيل الانكفاء القطري كما يزعم الزاعمون،وإنما من خلال الفهم العميق للخصوصية الفلسطينية، والإدراك الواسع لعمق القضية الفلسطينيةالتي تمثل في جوهرها تحديا وجوديا!!! وهي التي أطلقت الكفاح المسلح الثوري، وجرت المنطقةحين فعلت ذلك إلى أفق جديد، وجعلت الاستراتيجيين يدهشون لأمرها، لأن ثورة الكفاح المسلحالفلسطيني التي أطلقتها وقادتها فتح لم تكن تمتلك أياً من العناصر الموضوعية التي توافقعليها الجميع!!! فكيف تقوم ثورة الكفاح المسلح فوق بساط الريح الذي لا يستقر لحظة واحدة!!!وكيف تقوم ثورة الكفاح المسلح فوق ظهر الحوت، وفي ضيافة الأخريين الذين لا يطيقون هذاالنوع من الكفاح؟ بل إن حركة فتح حين جسدت ثورة الكفاح المسلح على طريقتها وحساباتهاالخاصة، فإنها قدمت نموذجا هو الأكثر إدهاشا في زمانها، نموذج معركة الكرامة، فحربالعصابات، حرب الشعب، حرب لأن النتائج حين إذ تكون كارثية، والخسائر تكون باهظة، ولكنفتح التي تحمل لواء المفاجئة والتغيير كانت تنظر إلى ما هو أبعد من القوانين المسلمبها، كانت عينها على حضور فلسطيني فوق كل التوقعات، وأن تخلع فلسطين رداءها الزائفالذي ألبسوها إياه قسراً، رداء اللاجئين المنتظرين في طوابير، لتصبح هي والخطر توأمين،وهي البادئة بالعطاء، والمبادرة بمد حبل النجاة من شرايينها الدافقة بالدماء، لأمةكان موشي دايان ينتظرها على الخط الأخر من التلفون لتعترف بأنها في قاع الهزيمة.

ريادة التغيير، وروح التغيير، والقدرة الفائقة على التكيفمع مفردات الزمن السياسي وضغوطه واستحقاقاته وطموحاته، هي إرادة فتح، وروح فتح، وامتيازفتح المكتوب باسمها، والذي لم يستطع أن يسلبه منها احد!!! وحتى عندما حاول العدو القويإسرائيل، وحاول الخصوم في المحيط العربي والإقليمي أن يستلبوا من فتح قرارها الفلسطيني،ويجردوها من روحها المبادرة، مستخدمين لذلك أعتى أنواع الأسلحة الفتاكة، مثل الاجتياحاتالكبرى، أو سلاح ديكتاتورية الجغرافيا، أو سلاح صناعة الانقسام الداخلي، فإن حركة فتح،حتى وهي مثخنة بالجراح، ظلت متشبثة بسر الحضور الفلسطيني، وظلت حية بروح التغيير والتجديدالذي هو ضرورة الحياة.

بعض الآخرين:

سواء كانوا أفرادا أو جماعات، وهم يبحثون لفتح عن عوراتونقائص ومثالب، تستغرقهم القشور السطحية، مثل قدرتها على الحديث مع الذات بطريقة علنية،بل وأكثر من علنية في بعض الأحيان، أو طول الفترة التي تنقضي بين مؤتمراتها القليلةالعدد، ستة مؤتمرات عامة في أربع وخمسين سنة!!!

فعلا الفترات الزمنية متباعدة، من ينكر ذلك، ولكن السؤالالأهم، أي روح تجديدية وتغييرية كانت تعبر عن نفسها باستمرار في كل فترة بين مؤتمرين؟من المنفى إلى الوطن، من ثورة العمل العسكري إلى ثورة العمل السياسي!!! من ثورة الرصاصإلى ثورة الحجارة، من التصادم في الميدان بالسلاح إلى التصادم على طاولة المفاوضاتبالإرادة والنصوص. إنها محطات كبرى، وتحولات واسعة النطاق، وتجديد للحياة بلغة الحياةنفسها، ولو أن فتح لا تمتلك هذه الإرادة القوية في التغيير والتجديد والتكيف المستمرمع شروط الزمان والمكان، لكانت ماتت، وماتت معها القضية الفلسطينية، لأن الأخرين كانواقبل فتح، وظلوا مع فتح، ويراهنون على القفز فوق أكتافها، ولكنهم لم يقدموا شيئا جديدا،فمن كان يهرب منهم من أعباء وخطورة الحضور الفلسطيني إلى سهولة الذوبان في المشهد القومي،ظلوا على حالهم، ومن كانوا يهربون من مشقة الميلاد الفلسطيني الصعب والمستحيل، ويرتاحونتحت سقف إدعاءات الإسلام السياسي فإن الإسلام السياسي كان دائما موجودا، ولكنه لم تكتمللديه الإرادة بأن يحمل على كاهله عبء القيامة الفلسطينية بكل خصوصيات هذه القيامة.وهكذا ظلت فتح بغريزة البقاء، وعبقرية التغيير والتجديد، وصميمية الإحساس باللحظة السياسيةالمكثفة، هي قائدة الاتجاه، وصوت البشرى، وبوصلة الأمان الوطني.

الآن:

في هذه المرحلة التائهة وسط تداعيات الإعصار العربي،والمخنوقة بالمحاذير والاحتمالات الصعبة، فإن حركة فتح تطلق في قلب حياتها الداخليةنفير التغيير ونفير التجديد ونفير الصعود إلى أفق آخر.

من وجهة نظر البعض: الوقت ليس مناسبا لذلك، لأن الصراخيدوي في ساحات العواصم العربية، ولا أحد من اللاعبين متأكد من أي شيء، فكيف تجرؤ فتحعلى التغيير في هذه اللحظات الخارقة؟ هكذا يقول البعض.

و المكان غير مناسب أيضا، لأننا كفلسطينيين، كحركة وطنيةسياسية فلسطينية نوجد في جوف الحوت!!! كيف ونحن تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، وفيجوفه العدواني المعربد، نطرح موضوع التغيير؟ وكيف نحلم بالتجديد؟ أما حركة فتح فتقولإن الأسباب المانعة هي نفسها الأسباب الموجبة، وأن تفاعلات التغيير المنبثقة من حرارةالاحتكاك، سوف تفج في عقولنا وقلوبنا وسواعدنا ضوءا وتحديا، لكي نرى القادم من وراءأستار العتمة، وأن نرى ما تراكم في الجرح من قيح وصديد، وما تسلل إلى شقوق فناء العائلةمن أفاع سامة! لا نستطيع أن نبقى هكذا، نراوح مكاننا ونلوك الكلام كأننا نلوك الماء!!!حانت لحظة الحقيقة، وحانت لحظة الشجاعة، وحانت لحظة القرار.

الموضوع ليس سهلا: و معروف أنه حتى في أقوى الحركاتالثورية، بأن الناس يصبحون عبيدا لما تعودوا عليه، ويصبحون جبناء خوفا من المجهول،ويصبحون أسرى التفاصيل التافهة بدل أن يتعاقدوا مع الرؤى الجديدة التي تشكل المستقبل.

في العقل الثوري الذي أساسه التجديد والتغيير، لا يمكنأن يكون كل شيء مثاليا، إننا بشر، وكل فعل بشري يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ، ولكن إذالم نبدأ اليوم، فقد يصبح من الصعب جدا أن نبدأ غدا!!! وهكذا فإن المهم هو التعاطي معجدلية التغيير، والمهم هو الثقة بروح التغيير، واعتماد معادلات التغيير، أما الصعوباتوالمخاطرات فهي دائما مزروعة في الطريق، لأن فتح من وراء هذا وذاك لا تريد شيئا بسيطا،انها تريد وطنا ودولة وكيانا مستقلا، وهذا ما لا يتحقق مطلقا بالجلوس في شرفات الانتظار،واجترار الذكريات، هذا يتطلب مقامرة مدروسة، ومخاطرة محسوبة، وجسارة في الذهاب إلىقمة الجبل.

يا فتـــــــح، أيتها الوردة المعجزة الطالعة من جرح،لقد جعلتينا منذ انطلقتي نرى ونعرف ونؤمن حتى اليقين، أن الخائفين الواجفين المترددين،لا يصنعون الحقائق الكبرى.