بناء على الخطاب الانتخابي الأخواني، الذي تخلل حملة الوصول إلى رئاسة جمهورية مصر العربية، يحق لحماس إقامة الأفراح والليالي الملاح وتقبل التهاني والشروع بما لذَّ وطاب من أحلام وردية وزهرية.

وبالطبع يحق لقيادتها المتنفذة في غزة- وكالعادة- قتل أية بشارة تفيد بانتهاء زمن الانقسام وبدء عصر الوحدة الوطنية الفلسطينية.

المستشار السابق للأمن القومي في إسرائيل- غيورا ايلاند- دعا حكومة نتنياهو للاعتراف ب "دولة غزة" لأنها تستوفي الشروط القانونية لذلك، بدأ من الحدود ومن وجود حكومة منتجة وصولاً إلى وجود ممر لها إلى العالم "فيلادلفيا".

ملف توطين اللاجئين الفلسطينيين في غزة يعود إلى العام 1951، والرئيس السادات وافق على حيثياته خلال مفاوضات كامب ديفيد، مبدياً استعداد مصر لإضافة مساحة جغرافية خاصة بالدولة الفلسطينية تصل إلى حدود مدينة العريش.

وفي زيارة قام بها مؤخراً وفد إسرائيلي إلى واشنطن، تم طرح مسألة "سيناء كوطن بديل- مع غزة" طالبت الإدارة الأميركية خلاله التمهل، بسبب واقع المنطقة الذي لا يحتمل طرح مثل هذه المشاريع في الوقت الراهن.

بالمقابل، يؤكد الرئيس المصري الجديد على مسألة التزام مصر بالاتفاقات والمعاهدات الدولية. بالطبع، تأكيد يرخص أو يعدِّل مسألة الشعارات التي رفعت وأعلنت خلال الحملة الانتخابية. فيما الوقائع تشير إلى حاجة مصر إلى علاقات طيبة مع الأميركيين والأوروبيين، وهي – العلاقات- لا تحتمل أية مغامرات أو مواقف تؤثر سلباً في هذا التوجه، حيث الحاجة الملحة لترميم الاقتصاد البدائي والمتآكل ولجذب الاستثمارات البالغة الأهمية التي تسهم في ذلك.

كما أن أمام الحكم المصري الجديد رزمة هامة من الأولويات الداخلية التي لن تكون أقل أهمية من الهم الاقتصادي- المعيشي للمواطن المصري.

فبين الرئيس- الأخواني- والعسكر أزمة ثقة وتداخل في الصلاحيات تعلو نبرتها وتنخفض تبعاً لحراك الواقع اليومي للعلاقة بينهما. وهناك أزمة العلاقة التشريعية بين الرئاسة والعسكر والمراجع القانونية- المحكمة العليا- التي تبدو أكثر قرباً إلى العسكر والتي تتمتع بصلاحيات لا يمكن تجاوزها. وهناك إعادة ترميم وهيكلة وتحديث الإدارات والمؤسسات العامة. وهناك أزمة الثقة بين المواقف والتوجهات والسياسات المعلنة والمضمرة تجاه شكل ومسار دولة مصر ما بعد مبارك. هل هي إسلامية- وطنية- ديمقراطية، وكيف يمكن للإخوان طمأنة التنوع السياسي- الثقافي في مصر؟

وانطلاقاً مما سبق، أين تكمن أولويات الرئيس المصري، وهل بالإمكان إضافة مسألة غزة إلى أجندته التي تتساوى أهميتها مع أهمية الملفات الداخلية المصرية؟ وهل يمكن فصل غزة عن الأمن القومي المصري- أي من يقرر شكل الصلة بغزة، الرئاسة أم العسكر؟

الواضح هنا، وبعيداً عن الإعلانات والخطب، ينبغي إعادة جدولة الأحلام والشعارات التي طالما تغنى بها أمراء غزة وحكامها، وعقلنة أمنياتهم تجاه ما يريدونه من قيادة الشعب المصري الجديدة. بالطبع يلزم ذلك الكثير من التواضع انطلاقاً من معادلة الإقرار بعجز حماس وقيادتها عن الإملاء على القيادة المصرية. وبأن الرئيس الاخواني لم يصل إلى منصبه إلا بعد إجازة أميركية واضحة ومكثفة الحيثيات التي تبرر ذلك، أقلها أنها محصلة أبحاث عميقة واستراتيجية في مراكز القرار الأميركي، هدفها محاولة تجفيف التطرف الإسلامي وتقديم الأخوان كنموذج للاعتدال والتعايش مع الثقافات والمصالح الأخرى في العالم. ما سبق يعني أن حكم الأخوان سيكون متعايشاً مع الخارطة السياسية الأميركية في المنطقة، ويعني بدقة أكثر لجم حماس وخطابها ومنعها من التحليق خارج الخارطة- إن هي حاولت، وأشك في ذلك.

بعض المحللين حاولوا استشراف المرحلة القادمة فيما يخص القضية الفلسطينية ومصيرها، فرأوا وتبعاً للواقع التي تؤكدها سياسات إسرائيل في الضفة الغربية، مرفقة بمواقف وتصريحات المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية، أن حكومة نتنياهو تدفع باتجاه تحويلها إلى قضية عربية- عربية، أي إلحاق غزة بمصر- حتى لو سميت دولة مستقلة، وإلحاق التجمعات الفلسطينية بالأردن.

وأن حملة التطهير العرقي التي تنفذها إسرائيل بهدوء ذاهبة باتجاه تكريس "حياة الجحيم" على فلسطينيي الضفة من خلال إيصالهم إلى وقائع وظروف يستحيل معها العيش حيث هم، وبالتالي يصلون إلى نتيجة تحتم عليهم مغادرة أرضهم وديارهم طوعاً.

مايكل فروند- مستشار نتنياهو السابق، كتب في الجيروزاليم بوست في 20 حزيران الماضي وتحت عنوان قبلة وداع للخط الأخضر.! الخط الأخضر مات ودفن ولم يعدله أي معنى سياسي أو غيره. خلال المقال خاطب منتقدي الاستيطان قائلاً: الأفضل لكم الاعتياد عليه، لأن الشعب اليهودي موجود هنا ليبقى...

في ال 17 من تموز الجاري، أوصى ثلاثة قضاة وقانونيون إسرائيليون حكومة نتنياهو برزمة من المطالب، أهمها: اعتبار الوجود الإسرائيلي في الضفة قانونياً وليس احتلالاً.

حق البناء للمستوطنين، أينما ومتى أرادوا.

وطالبوا الحكومة بالكف عن تفكيك أية بؤرة استيطانية، لا بالقوة ولا عن طريق الصفقات مع المستوطنين.

وبالتاريخ نفسه، صرح المستشار القانوني لحكومة نتنياهو: أن الحرم القدسي جزء من أراضي إسرائيل، ينطبق عليه القانون الإسرائيلي، ولا سيما قانون الآثار وقانون التنظيم والبناء.

الأهم من ذلك هو أن الخلاصات التي تخرج من دوائر البحث والدرس الرسمية والمهنية في إسرائيل تتقاطع كلها عند نقطة تجاهل أي حق فلسطيني مشروع بالهوية والوطن. نذكر هنا بتوصيات لجنة ليفي التي عينها نتنياهو، حيث خلصت إلى اعتبار وجود إسرائيل في الضفة ليس احتلالاً، وبوجوب تطبيق معاهدة جنيف الرابعة بخصوص حماية المدنيين في الضفة الغربية، كما أوصت اللجنة بوجوب شرعنة عشرات المستوطنات "غير الشرعية" بمفعول رجعي.

المستقبل يبدو مقفلاً، إن لم نقل قائماً، حيث تزول فيه من المفكرة الإسرائيلية معادلات السياسة والعقلنة، لتحل محله أيديولوجيا التوحش بكامل مضامينها وأبعادها. فاكتشاف المخزون الهائل من النفط والغاز قبالة شواطئ فلسطين المحتلة وفي المجالات الإقليمية الحيوية في البحر المتوسط بين فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا وقبرص، يبدو أن حرباً مدمرة سوف تخوضها إسرائيل "بالتشبيح وعرض العضلات" للاستحواذ على الحصة الأكبر منها، على الأقل هيمنتها على مساحة 870 كلم من مياه المنطقة الدولية قبالة الدول المذكورة.

وبناءً على ما سبق سوف تعجل إسرائيل ترسيخ البنى التحتية  للدولة بما يضمن استقراراً استراتيجياً، وتستحوذ كذلك على المزيد من الإمكانات العسكرية التي تستطيع حماية نفسها- كدولة عظمى- ليس في المنطقة فقط، إنما على مستوى العالم أيضاً.

وعليه، سوف تزداد الدول بمواقفها نفاقاً وانحيازاً لأجل الحصول من إسرائيل على الطاقة وغيرها من المنافع الاقتصادية، وهذا بالطبع سيكون على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته.

يقول رئيس الحكومة الإسرائيلية في أحد تصريحاته: الموارد المتأتية لإسرائيل من حقول الغاز والنفط ستحررنا من قبضة المساعدات الأميركية "المشروطة" أحياناً، وتسمح لها بالدفاع عن أمنها بطريقة أكثر استقلالاً من قبل. بالطبع كلام نتنياهو ليس صحيحاً، لكنه من ناحية أخرى يعني تلميحاً خبيثاً للإدارة الأميركية حول قدرة إسرائيل على اتخاذ قرارات وسياسات خارجة أو محرجة لتلك الإدارة.

وعود على بدء- التغيير والاستقرار في المنطقة يحتاج إلى مسارات في التغيير البنيوي لأنماط الحكم وترميم الواقع- بمعناه الشامل. وبصرف النظر عن نجاحات وإخفاقات تلك المسارات لم نزل نعاني من غياب رصيد القضية الفلسطينية عن قائمة الأولويات العربية والدولية. بالطبع نتفهم حجم وقوة ضغوط الواقع الداخلي لكل دولة عربية، لكنه بالمقابل يبعد إسرائيل عن دائرة الرقابة الإقليمية والعربية، ويمنحها مدى أوسع لمزيد من الاستهتار والعدوان. وما الوقاحة الإسرائيلية في الرد والتعامل مع لجنة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية- التي تعمل في الضفة الغربية، سوى دليل على استسهال خرق إسرائيل كل المواثيق والأعراف الدولية والمساس المؤذي بالمؤسسات الدولية وأطقم عملها.

وبعد التهديد بوقف عملها، وتجميد أنشطتها في الضفة الغربية، وحصر تراخيص الدخول لأعضائها، صرح مسؤول إسرائيلي كبير بأن: الأشهر الستة الأخيرة شهدت تدهوراً خطيراً بين إسرائيل واللجنة. وهنا نذكر أيضاً باستطلاع ال ب ب سي- للعالم الجاري 2012، الذي حلت بنتيجته إسرائيل بالمرتبة الأشد سلبية، بالتساوي مع كوريا الشمالية.

رغم الصورة السوداوية للواقع الفلسطيني عملت القيادة الفلسطينية ولم تزل على العديد من الخطوط التي تتحدى وتتجاوز معادلة الواقع. فهي من جهة، بادرت ولم تزل- بل وتفردت- بسعيها إلى إنهاء الانقسام وإضاءة قنديل الوحدة الوطنية، رغم المواقف والتهديدات العدائية الأميركية والإسرائيلية، فيما الطغمة المتنفذة لأمراء حماس في غزة- وبعض الذين خارجها، آثروا مصالحهم الخاصة على الوحدة ومقتضياتها.

ومن جهة ثانية، لم توقف هذه القيادة محاولات تكريس الحق الفلسطيني وفرض الوقائع المؤسساتية وبنى الدولة المستقلة على الأرض الفلسطينية، رغم معوقات وعدوانية سلطات الاحتلال.

واستمرت كذلك بحصد الحقوق حول الأرض والتراث- ليس أولها أن تكون فلسطين عضواً في منظمة  اليونيسكو، ولا آخرها ضم كنيسة المهد إلى التراث العالمي.

أخيراً لا بد من سؤال: هل يمكن لحماس أن تتعايش مع البنية التاريخية للهوية الوطنية الفلسطينية، أم أنها ذاهبة باتجاه التحليق في المدى الأميركي، وبالتالي التخلي عن حلم الدولة على حدود أراضي العام 1967 والقبول بفكرة الوطن البديل غزة- بعض سيناء؟.