الرابع عشر من مارس .. تاريخ يحفظه 'الصهاينة' جيدا، لأنه يحمل معه ذكرى تحطيم نظرية أمن الاحتلال على صخرة أبناء المقاومة الفلسطينية الذين مرغوا أنف الحكومة النازية بالتراب و أثبتوا أن كل التحصينات التي يتغنى بها العدو لا تمنع استشهاديا من بلوغ مرامه أو تحقيق هدفه.

ففي تاريخ 14-3-2004 كان ميناء أسدود 'الصهيوني' شديد التحصن على موعد مع استقبال الاستشهاديين البطلين 'نبيل مسعود' ابن كتائب الأقصى و 'محمود سالم' ابن كتائب القسام، و اللذان سطرا أروع ملاحم البطولة عندما فجرا جسديها الطاهرين في جنود و شرطة الاحتلال داخل الميناء و أحالا ليل العدو إلى نهار تاركين إياه يتخبط مذعورا لا يدري من أين خرج هذان البطلان، هل أمطرتهما السماء، أم خرجا من باطن الأرض، أم هل خرجا من بطن حوت في البحر ساقهما إلى الشاطئ؟؟

ما يعرفه الجميع أن البطلين مسعود و سالم نفذا عملية استشهادية مزدوجة في ميناء أسدود قبل ثمانية أعوام أوقعت ثلاثة عشر قتيلا إسرائيليا و عشرات الجرحى، وتركت العملية أثرا واضحا لدى حكومة شارون الذي اتخذ قرارا بعدها باغتيال و تصفية جميع قادة المقاومة مترجما ذلك باغتيال الشيخ المقعد 'أحمد ياسين' و الشيخ الدكتور 'عبد العزيز الرنتيسي'، فعملية أسدود كانت الأولى التي نجح فيها فدائيون في الوصول إلى منطقة إستراتيجية في العمق الصهيوني انطلاقا من قطاع غزة..

تطور نوعي

وفي تطور نوعي لقدرات فصائل المقاومة الفلسطينية عامة وكتائب الشهيد عز الدين القسام وكتائب شهداء الأقصى ، وجهت هذه الفصائل ضربة إستراتيجية نوعية ضد الكيان الصهيوني ومصالحه الإستراتيجية عندما تمكن استشهاديان من كتائب القسام وكتائب الأقصى _ يسكنان مدينة غزة_ تفجير جسديهما الطاهرين داخل ما يسمى بميناء أسدود داخل أراضينا المحتلة عام 1948 مما أسفر عن مقتل أحد عشر صهيونيا وإصابة العشرات، في عملية هي الأولى من نوعها منذ بداية انتفاضة الأقصى المباركة.

فقد أعلنت كل من كتائب الشهيد عز الدين القسام – الجناح العسكري لحركة حماس - ، وكتائب شهداء الأقصى – الجناح العسكري لحركة فتح – مسئوليتهما المشتركة عن العملية الاستشهادية النوعية داخل ما يسمى بميناء أسدود عصر يوم الأحد14/3/2004م

وقالت الكتائب في بيان عسكري مشترك لهما ' بحمد الله وقوته وتوفيقه تعلن كتائب الشهيد عز الدين القسام وكتائب شهداء الأقصى مسئوليتهما المشتركة عن عملية ميناء أسدود الاستشهادية حيث تقدم اثنان من مجاهدينا تحفّهما رعاية الرحمن تجاه أرضنا الحبيبة المغتصبة عصر هذا اليوم الأحد 23 محرم 1425هـ الموافق 14-3-2004م في ميناء أسدود التجاري وبرعاية الله عز وجل نجح المجاهدان من الوصول لهدفهما المحدد و تفجير نفسيهما ليحولا الميناء إلى كتلة من النيران الملتهبة وبهذا تكون أكذوبة الأمن الصهيونية قد سحقت ونسفت معها كل الحواجز الأمنية والجدران الواهية والأسلاك الشائكة تحت أقدام استشهاديينا الأبطال'.

فكرة العملية

جاءت فكرة تنفيذ عملية استشهادية في ميناء أسدود المحصن و المعقد من قبل القيادي في كتائب الشهيد عز الدين القسام الشهيد القائد 'فوزي أبو القرع' والشهيد القائد 'حسن المدهون'، و بعد دراسة جيدة ومعقدة للفكرة تم عرضها على قيادة كتائب القسام والأقصى ، و جاءت الموافقة على الفكرة الأولى، و هي استهداف الميناء بعملية استشهادية يستخدم فيها المتفجرات و الأحزمة الناسفة.

كانت القيادة تدرك أن هجوما معقدا كهذا أمر بالغ الصعوبة في ظل الاحتياطات الأمنية الصهيونية البالغة ووجود قطاع غزة تحت حصار خانق برا و بحرا و جوا، و نجاح المهمة كان رسالة لشارون و حكومته مفادها أن فرض الإجراءات الأمنية لا يكفي لجلب الأمن للمغتصبين المحتلين.

بعد الدراسة الكاملة و الوافية للخطة من كافة جوانبها و رسم خارطة مفصلة للميناء بناء على معلومات حصل عليها الجناحان العسكريان بطريقة خاصة، ، و وقعت الموافقة على التنفيذ بسرية تامة.

تم تكليف الشهيد 'فوزي أبو القرع' مع قيادي ثاني من كتائب القسام والشهيد 'حسن المدهون' و قيادي آخر في كتائب الأقصى و بمتابعة العملية و الإعداد لها مع توفير كل الإمكانيات المتاحة.

الوسيلة التي استخدمت في تنفيذ العملية 'كنتينر بضائع خاص' تم توفيره بصعوبة بالغة، بحيث يدخل الميناء الذي يعج بالكنتنرات التي تفرغ و تحمل البضائع من و إلى قطاع غزة عبر معبر المنطار.

' الغرفة السحرية'

في نهاية الكنتينر البالغ طوله 12 مترا تم تجهيز غرفة سحرية و بدقة متناهية، حيث لم يتجاوز عرض الغرفة 55 سنتمترا، بحيث تم إنشاء جدار قياسي على غرار الجدار الحقيقي في نهاية الكنتينر لا يستطيع من يراه أن يميزه.

في داخل الغرفة تم تثبيت مشابك حديدية يتشبث بها الاستشهاديان عند قيام قوات الاحتلال برفع الكنتينر و هزه لتفتيشه في المعبر، بحيث لا يعمل التفتيش و الأرجحة على تقلب من بداخل الكنتينر فتصدر أصوات تكشف أن أمرا ما في الداخل.

على الجوانب الثلاثة للغرفة السرية تم فتح أبواب مموهة جيدا تفتح من الداخل و لا تفتح من الخارج و لم يترك أي فراغ في هذه الأبواب يثير الشك أو الريبة، و حتى يتمكن الاستشهاديان من الخروج من أي الأبواب إذا ما تم حشر الكنتينر بين كنتينرات أخرى في الميناء تغلق المنافذ، بحيث إذا أغلق المنفذ على اليمين مثلا استطاع الاستشهاديان الخروج من الجهة اليسرى و العكس، و إذا أغلق المنفذان الأيمن و الأيسر يفتحان الباب الخلفي.

داخل الغرفة السرية تم تجهيز ما يشبه (حمّام الطوارئ) و لوازم أخرى تتحفظ الكتائب عن الإفصاح عنها، كما تم تزويد المنفذين بالمياه المعدنية و التمر، لأن الرحلة من المؤكد ستكون شاقة و طويلة عليهما.

اختيار الاستشهاديين

بعد(التشييك) الدقيق من قبل القادة أعطيت الإشارة بالانتهاء من إعداد الكنتينر و الغرفة السرية بطريقة فنية رائعة و هندسية مثيرة، و بذلك انتهت الخطوة الأولى.

الخطوة الثانية كانت اختيار الاستشهاديين منفذي العملية، و كلاهما من مخيم جباليا للاجئين فاختارت كتائب القسام الشهيد محمود سالم(18 عاما) ، واختارت كتائب الأقصى نبيل مسعود (17 عاما) ، و تم تدريبهما تدريبا جيدا، و تأقلموا على الغرفة السرية، وتعلموا كيفية تثبيت أنفسهم عند تفتيش الكنتينر داخل المعبر، حيث أن الإجراءات في المعبر شديدة الصرامة.

تنفيذ العملية كان يحتاج إلى حزام ناسف و حقيبة متفجرات، و قد استخدم في هجوم أسدود مواد متفجرة جديدة لم تستخدم في أي عملية سابقة.

كما احتاجت المهمة لباسا خاصا يرتديه الاستشهاديان يتناسب مع طبيعة الهدف و أجهزة خلوية صهيونية 'أورانج' للمتابعة و الاتصال مع غرفة العمليات المشتركة.

فجر الرابع عشر من مارس 2004 تمت مراجعة الخطة بشكل نهائي، و تفقد القادة مع الاستشهاديين الغرفة داخل الكنتينر، و صعد نبيل و محمود للغرفة بعد إعطائهم التعليمات بإغلاق وسائل الاتصال التي بحوزتهم حتى دخول الميناء، لتبدأ الرحلة، و يبدأ الترقب و تصبب العرق من القادة في غرفة العمليات المشتركة و قلوبهم تخفق بالدعاء أن ينجح الله المهمة.

دخول الكنتينر

وضع القادة حسابات زمنية بأن الكنتينر سيكون في الطرف الصهيوني الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، و لكن تأخر دخول الكنتينر إلى الساعة الواحدة بعد الظهر بسبب وجود كنتينرات كثيرة تحت التفتيش، و مما زاد الطين بلة أن ذلك اليوم كان شديد الحر، فصارت المشقة و التعب مضاعفين على نبيل و محمود.

تم تفتيش الكنتينر من قبل قوات الاحتلال، و أعطت وحدة الرصد الأنباء بأن الكنتينر قد خرج من المعبر باتجاه ميناء أسدود، في هذه اللحظات تنفس الجميع الصعداء.

أنا عند أمي

بعد ذلك ساد الهدوء غرفة العمليات المشتركة، فالجميع بانتظار المكالمة الأخيرة من نبيل ومحمود، و عند الساعة الرابعة عصرا اتصل نبيل على القائد حسن المدهون و قال له: أنا عند أمي' و هي كلمة السر المتفق عليها و التي تعني أن نبيل سيفجر نفسه في الهدف بعد ثوان معدودة، ثم انقطع الاتصال.

نبيل فجر نفسه داخل الميناء، في حين كان محمود في مكان بعيد ينتظر احتشاد جنود و شرطة الاحتلال في المكان ليفجر حقيبته وسطهم، قد فجر نبيل نفسه على بعد أمتار من مخازن للمواد الكيميائية، الأمر الذي زاد الإرباك في صفوف الصهاينة.

وسائل الإعلام العبرية بدأت تتناقل أن انفجارا مصدره أسطوانة غاز قد وقع في ميناء أسدود، فلم يكن لدى قوات الاحتلال ما يؤكد أن الانفجار نفذه استشهادي.

بعد تجمع جنود الاحتلال و في مكان الانفجار الأول خرج عليهم الاستشهادي محمود سالم وفجر نفسه وسطهم، لتسفر العملية عن مقتل ثلاثة عشر صهيونيا و إصابة ثلاثين بعضهم بجراح خطيرة.

تعقيب العدو على العملية

قادة الاحتلال صرحوا في تعقيبهم على العملية بأن كارثة كانت ستحدث في جنوب فلسطين المحتلة لو وقع الانفجار داخل مخازن المواد الكيميائية، و اعترفوا أن المقاومة استهدفت منطقة إستراتيجية لم تستهدف من قبل.

لم يخطر ببال قادة العدو الوسيلة التي نفذت من خلالها العملية، فتارة قالوا :'إن المهاجمين وصلا الميناء بواسطة أوراق مزورة'، و تارة أخرى قالوا :'إنهما دخلا عبر نفق من تحت الأرض'، و ثالثة خمنوا أنهما وصلا عن طريق البحر بواسطة زورق أو ضفادع بشرية..

الكاتب الصهيوني في جريدة 'يديعوت أحرونوت' علق على العملية بالقول: 'هذه العملية أثبتت أن لا جدار مهما كان عاليا يمكنه أن يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى أهدافهم التي يخططون لها بدقة'.

كما أن حكومة شارون اتخذت عقب العملية قرارا بتصفية جميع قادة و كوادر كتائب الأقصى و كتائب القسام، فبدأت ذلك باغتيال الشيخ 'أحمد ياسين' بعد أسبوع من تاريخ العملية، أعقبه اغتيال الدكتور 'عبد العزيز الرنتيسي'، و شهد قطاع غزة أوسع حملة اغتيالات و قصف للمقرات و المواقع و المؤسسات التابعة لفتح و حماس.