بقلم: حسين نظير السنوار
من تحت الركام، ومن بين لهب الصواريخ، ومن بين أنين الجوعى والمُهجّرين، تواصل غزة سرد حكاية ألمها الطويل، حكاية لم تترك شكلاً من أشكال الموت إلا وتوشّحت به.
في قطاع غزة، الموت ليس حدثًا طارئًا، بل هو رفيق يومي. هنا يموت الناس حرقًا تحت نيران الصواريخ، وجوعًا في طوابير الإغاثة، وبردًا في خيام اللجوء، وتحت عجلات الجرافات، وعلى أرصفة الانتظار. لا لغة تحتمل كل هذا، ولا استعارة تُخفف هول ما يجري. فغزة التي لم تتوقف عن النزف، تبتلعها النيران كل يوم والعالم يغطّ في سبات ثقيل.
في خان يونس، أمام مجمع ناصر الطبي، اشتعلت خيمة الصحافيين إثر قصف استهدفهم مباشرة، بينما كانوا يوثقون ما تبقّى من الحقيقة. أجسادهم ذابت أمام الكاميرات، واختلط لهيب النار بأقلامهم ودفاترهم، فلم يتبقَّ إلا الرماد، وشاشات تنقل الصورة دون صوت، ودون استجابة.
وفي مدرسة دار الأرقم بمدينة غزة، تحولت أجساد الشهداء إلى أشلاء متطايرة، إثر قصف دمر المدرسة بالكامل، لدرجة أن ستة شهداء لم يُعثر لهم على أثر. كأنما التهمهم اللهب وابتلعتهم الأرض، وسط صمت عالمي يخلو من أي صدى إنساني.
وفي رفح وخان يونس ومخيمات النزوح في شمال القطاع ووسطه، تكررت المشاهد ذاتها: أجساد مشوية، رائحة الموت تفوح من بين الخيام، جثث ممددة على الأرصفة، وقلوب محطمة تُركت وحدها في مواجهة النار والمصير المجهول.
مجزرة أخرى ارتكبتها الطائرات في شارع رقم 5 بخان يونس، عندما استُهدفت "تكية طعام" كان يقف فيها الجوعى في طوابير الإذلال، فتناثرت أشلاؤهم في الشارع، وماتوا ونداءاتهم لم تتجاوز جدران الصمت. أحدهم، الشهيد محمود الكريمي، كتب قبل استشهاده بيوم: "عاجبك منظري وأنا واقف ع طابور التكية ورأسي بالأرض خجلان ومذلول مشان آخذ أكل ما يقبل فيه الحيوانات حتى". كلمات بحجم الكون تختصر المأساة.
وفي شارع الميكانيكية، سُجلت واحدة من أكثر الضربات دموية، حين قُصفت عائلة النفار، واحترق النساء والأطفال في منازلهم، أجسادهم تفحمت وتطايرت مع الدخان، ولم يعد بالإمكان التعرف إليهم.
- أرقام تُدمي القلوب
وفق معطيات حديثة صادرة عن جهاز الإحصاء الفلسطيني، فإن 274 رضيعًا وُلِدوا واستُشهدوا تحت القصف، و876 طفلاً استُشهدوا قبل بلوغ عامهم الأول. كما توفي 17 ألف طفلاً بردًا، و52 آخرون جوعًا. بينما فُقد أكثر من 11,200 ألف شخص، 70% منهم من الأطفال والنساء.
وأصبح نحو 39,000 ألف طفل أيتامًا، من بينهم 17,000 ألف فقدوا كلا الوالدين. وتُسجَّل يوميًا حالات إعاقات دائمة لدى الأطفال، بمعدل 15 حالة جديدة يوميًا، بينما بلغ عدد حالات البتر 4,700 بينها 846 لطفل.
7,700 رضيع مهددون بالموت نتيجة نقص الرعاية الطبية، وتراجع معدل التطعيم ضد شلل الأطفال من 99% إلى 86%.
- مجاعة مستفحلة وتعليم مدمر
ويُظهر التقرير تفاقم المجاعة في غزة، حيث يعاني 1.95 مليون من انعدام أمن غذائي حاد، و345 ألفًا في مرحلة كارثية، بينما يُعاني 60 ألف طفل سوء تغذية، و12 ألفًا سوء تغذية حادًا، إلى جانب 16,500 ألف امرأة حامل ومرضع بحاجة إلى علاج غذائي.
أما التعليم، فقد أصبح ذكرى مؤلمة: 111 مدرسة حكومية دُمّرت، و241 تضررت بشدة، إضافة إلى 89 مدرسة تابعة لوكالة الأونروا. وحُرم 700,000 طالب/ة من التعليم، بينما استُشهد 12,441 منهم، إلى جانب 519 معلمًا ومعلمة. وتوقفت الدراسة 300 يوم، بينما يكافح أكثر من ربع مليون طالب عبر التعليم الافتراضي وسط انقطاع الإنترنت والكهرباء.
- صرخة لا تحتاج إلى ترجمة
في غزة، لا حاجة إلى المزيد من الصور، ولا لتقارير أخرى. الحاجة الآن إلى ضمير عالمي يصحو. فأهل غزة لا يطلبون معجزة، فقط قليلاً من إنسانية ضاعت في زحام المصالح. وعلى لسانهم تُرفع الدعوات: "حسبُنا أنك يا رب لا تحتاج قولاً، حسبُنا أنك ترانا حين يُغمض الجميع أعينهم وتسمعنا حين يصمّ الخلق سمعهم عن صراخنا. يا رب مَدَدَك، فالخذلان أحاط بنا من كل حدب وصوب".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها