بقلم: محمد دهمان

"غادرت غزة بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وانتقلت إلى مصر، حيث مكثنا هناك شهرًا، ثم وصلنا إلى تونس في 1 كانون الأول/ديسمبر 2023. قبل مغادرتي، أصيبت زينة إصابة مباشرة في الرأس بسبب شظية باطون، دخلت العناية المركزة لأكثر من عشرة أيام وهي في غيبوبة تامة. أما إسلام، فقد كانت تحتضن سارة أثناء القصف، تمسك بها بكل ما أوتيت من قوة، حتى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، أنقذت ابنتها، لكنها رحلت. آدم، طفلنا الصغير، طار من قوة الانفجار، وعُثر عليه بعد ساعتين في بيت أحد الجيران، وكان يعاني من نزيف داخلي".

بهذه الكلمات، افتتح أحمد عبد الهادي، زوج الشهيدة الصحفية إسلام مقداد، روايته المؤلمة، عن فاجعة فقدان زوجته وابنه في قصف إسرائيلي استهدف منزلهما في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.

ويتابع أحمد: "استقبلت خبر استشهادها وهي كانت تكلمني قبل دقائق. أخبرتني عن قصف مرعب، عن زلزال هزّ الأرض، ثم اختفت، لم تجب على اتصالاتي. علمت وقتها أن شيئًا حدث لعائلتي. كنت أكتب منشورًا أشكرها فيه وأعبّر عن حبي لها، لم أكن أعلم أنه سيكون وداعي الأخير".

ويضيف: "إسلام كانت سندي، كانت القوة اللي بتخليني أتماسك، كانت شايلة كل شيء. الأطفال، البيت، الأمل. كانت مؤمنة جدًا، تحفظ كتاب الله، وتقول دائمًا: اللي ربنا كاتبه هيصير. حتى وهي تعاني، كانت تبث الطمأنينة في من حولها".

وعن أمنيته يقول: "أتمنى أن استطيع لَمَ شمل أطفالي، وأن استطيع تأمين مستقبل كريم لهم يجعل أمهم فخورة بهم. سأعلّم زينة وسارة أن يكونوا مثلها. تضحك رغم الحزن، تصنعن الأمل من العدم، وتحبِبْنَ الحياة كما أحبتها أمهن. وأدعو كل المؤسسات الإنسانية أن تساعد في إخراج سارة لعلاجها، كما كانت تحلم أمها، كي لا تبقى بلا أم ولا أب ولا عائلة".

سارة، الطفلة البكر لإسلام، ذات الأربعة أعوام، نجت بأعجوبة. كانت في حضن أمها عند وقوع القصف. انزلقت على طرف الحائط، ولو لم تكن أمها تمسك بها حتى الرمق الأخير، لما بقي لها أثر. أما زينة، ذات الثلاثة أعوام، فكانت في تونس تتلقى العلاج بعد إصابتها في قصف سابق، وأصيبت حينها إصابة خطيرة في الرأس أفقدتها البصر مؤقتًا، وآدم، الذي لم يتم عامه الثاني، ارتقى مع أمه. كان قطعة من قلبها، غادر الدنيا بين ذراعيها.

في ذلك اليوم الأسود، لم تفقد الأسرة فقط إسلام وآدم، بل استُشهدت أيضًا أخت أحمد، وزوجها، وأربعة من أطفالهما، ولم ينجُ من تلك العائلة إلا طفلان.

تقول والدتها، أمل مقداد: إن إسلام "كانت اجتماعية، محبوبة من الجميع، نشيطة ومتفوقة. تحب الإعلام، تحب أن تكون صوت من لا صوت له. تكتب عن الأطفال، عن الاحتلال، عن الفقد. تحارب بالكلمة، وتزرع الأمل".

وتضيف: "كانت تتمنى تطلع على الحج مع سارة، تحلم بنهاية الحرب، وبفرصة تلاقي فيها بنتها زينة. في يوم استشهادها، حصلت أخيرًا على موافقة لتحويلة علاجية لسارة. كان المفروض تحضر أوراق التحويلة للخارج في اليوم التالي لاستشهادها، بس القصف سبقها".

عملت إسلام في عدد من المؤسسات الأهلية، تطوّعت في مبادرات إنسانية، وشاركت في توزيع المساعدات، وكانت تمد يد العون للجميع. رغم كل شيء، لم تتوقف عن العطاء.

أما والدها، نصر الدين مقداد (55 عامًا)، فقال: "يوم العيد، وسط الخطر، تمكنا من الذهاب لخان يونس لنجتمع كعائلة. تغدينا سوية، وكانت إسلام فرحانة، رغم كل شيء. لم نكن نعلم أن هذا هو اللقاء الأخير".

وفي منشورها الأخير على فيسبوك، كتبت إسلام: "احتلوا رفح بالكامل، الشهداء جُثث متفحمة، نسفوا البيوت على رؤوس من فيها، الجوع يلاحق أجساد صغارنا، أزمة أكفان، اللي بيصير كفا".

وتختم أمل مقداد حديثها بمرارة: "آدم، يا صغير أمك، لم تعد هنا لتبكيها، بل رحلت معها، شهيدًا في حضنها. رحيلكما وجع لا يُحتمل، لكنه فخر لا يزول. إسلام لم تكن ابنتي فقط، كانت النور فينا، وكانت قلب فلسطين".

وفي بيان صدر عن لجنة الحريات في نقابة الصحافيين الفلسطينيين، أكدت النقابة أن استشهاد الزميلة الصحفية إسلام مقداد رفع عدد شهداء الأسرة الصحافية إلى 208 صحفيين منذ بدء العدوان الإسرائيلي على شعبنا في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وأشار البيان إلى أن شهر آذار/مارس 2024 شهد تصعيدًا خطيرًا في استهداف الصحافيين، حيث استُشهد 7 صحافيين في قطاع غزة، من بينهم 6 أثناء تغطيتهم الميدانية، وصحفي واحد داخل منزله، كما استُشهد 8 من أقارب الصحافيين جراء الاستهداف المباشر لعائلاتهم.

وأكدت النقابة أن ما يتعرض له الصحافيون الفلسطينيون هو جريمة حرب مكتملة الأركان، تستوجب تدخلاً دوليًا عاجلاً لوقف آلة القتل الإسرائيلية، ومحاسبة مرتكبي الجرائم بحق الصحافة الفلسطينية.