بقلم: ديانا عمرية

في عالم تسيطر فيه الشركات الزراعية الكبرى على الغذاء والبذور، وفي زمن باتت فيه الطماطم تُزرع لأجل لونها لا طعمها، والقمح يُعدّل لزيادة الإنتاج لا الفائدة، ينبثق أمل جديد من أرض فلسطين الخصبة، حيث قرر ناصر أحمد ابو فرحة من الجلمة (60 عاماً)، العائد من غربته الطويلة في الولايات المتحدة، أن يخوض معركة استعادة البذور الأصلانية ويبعث فيها حياة جديدة.

- حرب بذور وهوية

يقول ناصر أحمد: نحن اليوم ندفع أثمان ثقافة استهلاك دخيلة على مجتمعاتنا. حبة بندورة من زمان كانت تغذّي أكثر من نصف كيلو من بندورة اليوم، ورغيف واحد من القمح الفلسطيني الأصيل كان يشبعك، بعكس رغيف من القمح المهجن مثل العمبر.

مبادرة ناصر لا تقتصر على الزراعة، بل تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وأرضه، بين الفلسطيني وتراثه، حيث يقوم بجمع بذور فلسطينية أصلية– بعضها لم يُستخدم منذ عقود– وإعادة استصلاحها، وإكثارها، ونشر ثقافة استهلاكها بين المزارعين والمستهلكين.

- المعركة ليست فقط إنتاجية

في عالم يُقاس فيه القمح بعدد الأكياس، بدلاً من قيمته الغذائية، يدرك ناصر أن التحدي كبير. فيقول: "أقنعنا مزارعين بزراعة أصناف تنتج نصف الكمية أو أقل من المحسنات، لكن الجودة والقيمة الغذائية مختلفة تمامًا". مضيفًا: "اشتغلنا على وتر الأصالة، والهوية، والحياة الأورجانيك، ونجحنا جزئياً، والخير لقدّام".

ويدعمه في ذلك رمزي زيود، أحد المزارعين المتحمسين للمبادرة، الذي قال: أي صنف خضار أو حبوب في السوق اليوم، إله أصل فلسطيني. الفرق أن الأصلاني فيه حياة وقيمة، مو بس شكل.

- ما بين المختبر والتاريخ

تشير الحقائق إلى أن البذور الأصلانية، رغم أنها غير معدلة، إلا أنها الأقوى في مقاومة الأمراض، والأكثر تكيّفًا مع بيئتها. القمح مثل ناب الجمل قد يعطي إنتاجًا أقل من العمبر، لكنه يُنتج كشًّا أكثر، وهو غذاء للحيوانات، وبالتالي مصدر للحليب واللحم.

أما الباحث التراثي الزراعي مفيد جلغوم، فيصف هذه المبادرة بأنها إحياء للهوية الفلسطينية، وتوثيق عملي لأحقية هذا الشعب بأرضه.

- عقبات الاستمرارية

رغم النجاح الأولي، إلا أن المبادرة لا تزال بحاجة إلى دعم واسع. المشكلة ليست في البذور فقط يقول أحمد الرزي، رئيس جمعية كنعان الزراعية، بل في غياب التوعية للمستهلك، وفي غياب دعم وزارات الزراعة لهذه المنتجات.

فالسوق اليوم يفضل المنتج المهجن: شكل موحد، لون زاهي، وسرعة في البيع، لكنه يُهمل القيمة الغذائية، والأصل، والانتماء.

- نهاية قد تكون بداية

وسط حضور كثيف لبذور مختبرية، وغياب الدعم المؤسسي، تبقى بذور فلسطين الأصلية تقاوم وتشق الأرض من جديد، ربما ببطء، لكنها تحمل وعدًا بمستقبل مختلف، أكثر صحّة، وأكثر ارتباطًا بالأرض.

وعن سؤال إن كانت هذه البذور قادرة على الصمود، يجيب ناصر: عاجلاً أم آجلاً، هذا العالم سيعود إلى الماضي. سيبحث فيه عمّا يعطيه الصحة والهوية والعراقة. وها نحن نستقبل أول الباحثين.