شكلت سنوات الحصار الخمس الماضية على قطاع غزة جنة للمهربين الذين رفعوا راية كسر الحصار، ومقبرة للفقراء والمعوزين الذين دفعوا حياتهم ثمنا رخيصا للقمة العيش في أنفاق التهريب، التي أفرزت فئات جديدة من طبقة الأغنياء الجدد قدرتهم دراسة علمية بـ600 مليونير.

ظاهرة أغنياء أو مليونيرات الحصار ألقت بظلالها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة والتي تمثلت في ظهور المشاريع السياحية رغم انعدام السياحة، وإقامة العشرات من المجمعات الاستهلاكية والمولات التجارية، وحدوث أزمة السيولة واحتكار العملة من قبل الصرافين واستغلال البنوك والصرافين للموظفين، وارتفاع أسعار الأراضي بشكل مرعب وغيرها من الظواهر.

المليونيرات الجدد لم يسهموا في أي مشاريع تخدم المواطنين أو توفر فرص عمل، وإنما عملوا على تشجيع الاحتكار والاستغلال وتحكموا في أسعار الأراضي والعقارات في إطار عمليات غسيل الأموال.وتحول بعضهم من سائق 'عربة كارو' إلى صاحب أسطول من السيارات الفخمة, ومنهم من شيد أبراجا ارتفعت في الهواء على جثث أولئك الذين قضوا تحت الرمال وقدر لهم أن يدفنوا مرتين, وغيرهم من الذين انضموا إلى قائمة ذوي الاحتياجات الخاصة خلال رحلة البحث عن رزق أولادهم دون جدوى، وكلما مرت تجارة الأنفاق بمرحلة من الكساد تحتاج تلك الفئة لدماء جديدة تمتصها فتبحث عن وجهة جديدة لنشاطها... وكثيرا ما تكون تلك الوجهة الحرام والممنوع.

ومع انتهاء العصر الذهبي لأنفاق التهريب بدأت معالم الثراء تطفو على السطح في غزة، أبراجا ترتفع, ومعارض سيارات حديثة وفخمة, ومشاريع هنا وهناك, ومساحات أراضٍ شاسعة أحيطت بالسياج وتحولت إلى 'عزبة' على غرار تلك الموجودة في الريف المصري, ومجمعات فلل سكنية, أصحابها أغلبهم من مهربي الأنفاق, غزو كامل للعقارات تسبب في رفع هستيري بأسعارها, وعلى الوجه الآخر أناس حرم أولادهم من سترة تحميهم من برد الشتاء يرتادون مدارسهم بملابس خفيفة لعجز آبائهم عن ملاحقة الأسعار الخرافية مقارنة بسنوات مضت كانت فيها الأسعار بأسواق غزة ملائمة لكل الفئات الاجتماعية الفقير قبل الغني.

 

طريقة صناعة الملايين

أبو إبراهيم '27 عاما' قضى خمس سنوات في مهنة التهريب, كان يعمل عاملا بسيطا في الزراعة مع أقاربه, قبل أن يتجه منذ خمس سنوات للعمل في التهريب بعد أن حفر نفقا في أرضه التي أصبحت خالية بعد أن هدم منزله على الحدود المصرية الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى، اليوم يجلس أبو إبراهيم في معرض السيارات الفخمة الخاص به، الذي افتتحه في منزله الذي اشتراه حديثا بما يقدر بنصف مليون دينار أردني, وهو محاط بالعمال الذين ينظفون السيارات ويقدمون الضيافة للزبائن, ويشعلون حجر النارجيلة في موعد نزوله من الطابق الثاني بمنزله إلى المعرض.

يقول أبو إبراهيم: 'اكبر مبلغ من المال حصلت عليه دفعة واحدة في حياتي قبل العمل في التهريب كان لا يتجاوز ثمانمئة شيقل، كانت حصتي من أرباح زراعة البازيلاء في أرض أقاربي, لم أكن احلم أن أرى ألف دولار, وكاد يغمى علي عندما رأيت للمرة الأولى قبل عامين المليون دولار دفعة واحدة، وكانت توازي حجر بناء مقاس 20 (كما يطلق عليه في غزة)'. ويتابع: 'نسيت نفسي ولم أكن أذكر حتى أولادي وسيطرت علي لسنوات أحلام الثروة بشكل كبير, كنت أقضي أياما متتالية أتابع تجارة النفق دون أن أرى الشمس, لدرجة أنني كنت أشعر بالخسارة عندما أفكر أن أزور أولادي وأهل بيتي لبضع ساعات'.

وفي معرض رده على كيفية جمع المليون الأول يقول أبو إبراهيم, وبتلقائية تستدعى الاستغراب: 'كان أسهل مليون وليس كما يقولون دائما أصعب مليون', معللا ذلك بالقول انه 'في بداية العمل في الأنفاق كان سعر نقل البضائع للكيس الواحد من فئة ثلاثين كيلوغراما من أي نوع يصل إلى ثمانمئة دولار, وكان النفق يعمل على مدار الساعة وتخيل كم كيس كان يخرج النفق في اليوم الواحد', مبينا أن الحصار على غزة والنقص الحاد في البضائع فتح شهية التجار بشكل كبير وكان ذلك من نصيب أصحاب الأنفاق, وكانت أجرة العمال كبيرة تصل إلى مئة دولار يوميا ونصيب الشريك الواحد في النفق كان يصل في أيام إلى 30 ألف دولار.

أما الملايين الأخرى فكانت عبر تجارة الأراضي التي اتجه إليها تجار الأنفاق بعد أن تكدست أموالهم ولم تسعفهم خبراتهم الاقتصادية التي تكاد تكون معدومة في إدارة تلك الأموال والاستفادة منها بمشاريع, فكانت طامة أخرى سقطت على رؤوس المواطنين وذوي الدخل المحدود, وحمّى اجتاحت غزة وأشعلت أسعار الأراضي والعقارات بشكل جنوني, وهذا ما دفع أبو نافذ الذي يبلغ من العمر 29 عاما إلى ترك الأنفاق لأخوته لإدارتها والتركيز في تجارة الأراضي, مشيرا إلى انه تفاجأ من حجم الأرباح التي انهالت عليه دفعة واحدة في قطعة أرض وصلت إلى أربعة أضعاف سعرها بعد أن تم ترخيصها كمنطقة سكنية. ناصر احمد، صاحب شركة كمبيوتر وأحد الذين لجأوا للأنفاق لتهريب بضائعهم من الأراضي المصرية إلى قطاع غزة, يقول: 'لأول مرة توجهت إلى الأنفاق لجلب بضاعة كنت اشتريتها من تاجر مصري دفعت 22000 دولار أجرة نقل, أجرة الكيس الواحد 800 دولار', مشيرا إلى 'أن الأسعار الخرافية التي كنا ندفعها أجرة للنقل كانت سببا رئيسيا في رفع أسعار السلع في القطاع, وطبيعي ان يتحمل المواطن الفرق'.

 

حبوب الهلوسة مصدر ثراء

أما أبو سامح، وهو احد العاملين السابقين في أنفاق التهريب، فيقول: 'تجارة الأنفاق وان ادعى العديد من مالكيها أنها تصنع ملايين بالحلال فهو غير صحيح، حسب اطلاعي على بعض خفايا التهريب, وان كان جزء بسيط منهم يعدون على أصابع اليد كسبوا بالحلال'، مبينا ان العديد من تجار الأنفاق اتجهوا إلى تهريب المخدرات من الأدوية 'كحبوب الترامال والاكسس' وهي أدوية من فصيلة المخدرات ويتعاطاها الشباب للهلوسة, بالإضافة إلى الأدوية الجنسية غير معلومة المصدر, موضحا أن شريط 'الترامال' كان ثمنه في الأراضي المصرية بثمانية جنيهات أي ما يساوي خمسة شواقل, وهنا كان يباع الشريط بما يقدر بـ35 شيقلا أي بمربح 30 شيقلا للشريط الواحد, كان المهربون يضعون ألف شريط في أنبوبة الغاز الواحدة أي مربح أنبوبة الغاز كان يصل إلى 9000 دولار, أما حبة الأكسس فهي تباع 'فرط' وليس كشريط وكانت علبة السجائر الواحدة تستوعب أكثر من 500 حبة ويعاد تغليفها بعد التعبئة, وكانت أرباح الحبة الواحدة تصل إلى 25 شيقلا حيث كانت تباع بثلاثين شيقلا جملة وللمستهلك 35 شيقلا, ما ساهم في جلب العديد من الملايين, وطبعا دفع ثمنها أيضا الشعب, كل ذلك تثبته قضايا إلقاء القبض على بعض الشبكات التي تقوم بتهريبها للقطاع', مشيرا إلى أن الكميات الهائلة التي كانت تورد للقطاع اكبر بكثير مما كان يتم القبض عليه.

ويبين أبو سامح طرقا أخرى لجأ لها المهربون لصناعة الملايين بالمكر والدهاء, موضحا أن بعض التجار لا يزالون يقومون بعقد صفقات كبيرة مع تجار مصريين لجلب سلع تم تداولها في أسواق غزة والاعتياد عليها, ويتمثل الاتفاق بتقليل الوزن للسلعة والخامات المستخدمة فيها مع بقاء حجم العبوة كما هو عليه, مشيرا إلى أن رقاقات البطاطس على سبيل المثال وقطع البسكويت وعبوات الحليب المسحوق, يتم خفض وزنها بمعدل غرامات لكن الفرق يكون كبيرا في الكميات التي تقدر بالآلاف وبالتالي تتزايد الأرباح بنسب كبيرة علاوة على أن أسعار النقل في الأنفاق أصبحت بسيطة جدا بالمقارنة مع الأسعار الخيالية التي كان معمولا بها سابقا', وكشف لنا أبو سامح أن هناك أنفاقا تستخدم لمرة واحدة حيث تدخل كمية كبيرة من السجائر أو الممنوعات التي تفرض عليها الحكومة المقالة ضرائب كبيرة وتقدر أرباحها بملايين الدولارات دفعة واحدة دون ضريبة وبعدها يصبح النفق غير ذي أهمية.

 

يملكون المال ويجهلون إدارته

ويقول الخبير الاقتصادي د. سامي أبو ظريفة: 'الأغنياء الجدد أو أصحاب الملايين من المهربين الذين تشير الإحصائيات إلى أن عددهم وصل في قطاع غزة إلى نحو ستمئة مليونير في ظل الدعم المباشر وغير المباشر بالصمت من قبل الفصيل المسيطر على غزة، ومحدودية العرض والطلب جعلت تلك الطبقة تملك المال وتجهل إدارته وبالتالي تقوم باكتنازه وتتحكم فيه كيفما تشاء'، مبينا أن 'تلك الفئة تراقب احتياجات الناس وتسعى لتوفيرها واحتكارها واللعب على وتر المضاربة بالأسعار لرفع سعرها بشكل كبير يناسب أطماعهم اللامحدودة وشهيتهم المفتوحة دوما لجمع المال, بالإضافة إلى أنهم ساهموا برفع أسعار المقاولين وغيرهم من الطبقات المهنية التي ترغب في التعامل معهم دون غيرهم من المواطنين محدودي الدخل لأنهم يملكون المال ويدفعون بسخاء، ويرتبط هذا ارتباطا وثيقا بمصالح الناس وينعكس عليهم مباشرة, وخاصة طبقة محدودي الدخل التي أصبحت تكدح وتعمل من أجل ملاحقة غلاء المعيشة'.وأضاف: 'الأغنياء الجدد لا يكترثون على الإطلاق بالغلاء ويعود الأمر إلى خلل لديهم في تقييم السلعة وقيمتها الحقيقية ولأنهم يجهلون ما يصنعون، وفي خضم شهواتهم نحو الغنى السريع والفاحش تسببوا بالتضخم وهو الارتفاع المفرط للأسعار'.

وأكد د. أبو ظريفة أن ظروف الحصار وسيطرة حماس على غزة، وفي ظل غياب تشريعات وقوانين اقتصادية واضحة نشأ قطاع اقتصادي غير رسمي يأتي عادة في أي بلد نتيجة لظروف غير طبيعية واستثنائية كالحرب والانقلاب وغياب الأمن والاستقرار, إلى جانب ذلك أعطت الحكومة بغزة الفرصة لهم واخذوا ترخيصا للعمل في القطاع غير الرسمي وبدأت تلك الطبقة بالاستفادة من هذا الواقع, وأخذ المحسوبون على النظام القائم الفرصة للغنى وجمع الأموال, واستغلوا احتياجات المواطنين في قطاع غزة التي تقدر بمليار دولار سنويا تشمل كل ما يتعلق بالمواد الأساسية والخام'.

في ظل هذا الواقع والتسهيلات التي منحتها سلطة غزة للعمل في الأنفاق, تحت شعار التغلب على الحصار الإسرائيلي، استغل البعض هذا الوضع, وهناك شخصيات وصلت للثراء الفاحش في قطاع غزة من العمل في التهريب. مشيرا إلى أن هذا الواقع أتاح الفرصة لما يسمى بشركات توظيف الأموال للعمل في غزة ووقع آلاف المواطنين ضحايا النصب والاحتيال، فقد جمعت أموالا طائلة ولاقت انتشارا كبيرا ووصلت حجم الأموال المجموعة من أيدي المواطنين في بعض هذه الشركات إلى مئة مليون دولار, وتاهت معاناة الناس في دهاليز اللجان'، موضحا أن الحكومة في غزة استفادت هي أيضا من هذا القطاع الاقتصادي غير الرسمي وبدأت تستفيد من الضرائب من السجائر والوقود وغيرها من السلع المهربة عبر الأنفاق لتغطية نفقاتها الجارية، نتيجة لذلك تضرر معظم القطاع الرسمي، وهناك شركات استغنت عن العمالة, ولهذا السبب تنحى مستوردون رسميون جانبا, وعمل القطاع الصناعي بطاقة إنتاجية لا تصل إلى 20 % مما كانت عليه، ومن 3 ورديات يوميا صار يعمل بوردية في الأسبوع'.

 

غسيل الأموال

وعن غسيل الأموال المتراكمة عبر القطاع غير الرسمي يقول أبو ظريفة: 'القطاع المصرفي له قوانين ورقابة مالية خاصة تحكم عمليات إيداع الأموال في البنوك، وبالتالي هذه الأموال يجب أن تكون معلومة المصدر، حتى يتم إيداعها عند التعامل مع أي عميل في البنوك، القطاع الخاص والرسمي كون ثروته من خلال عمل على شكل أسر امتلكت الأموال وتوارثتها، وعمله رسمي وله في حضور ومعروف في دورة المال الرسمية وله حساباته المصرفية المعروفة. لكن القطاع غير الرسمي وفي ظل تنامي ثروات القائمين عليه وعدم قدرتهم على إدخالها في النظام المصرفي الرسمي لجأوا لشراء العقارات والأراضي والمشاريع الاستثمارية ذات الطابع الخدماتي إلى جانب السياحة والفنادق, وهذا النوع من الاستثمار يكون الهدف منه غسل الأموال بغض النظر عن الثمن للسلعة بهدف إدخال هذه الأموال في الدورة الاقتصادية, حيث ان الكثير من هذه المشروعات لا تحقق ربحا بل خسارة بسبب عدم وجود فرص لديهم'.وأضاف: 'هناك أموال ضخمة مكدسة في غزة لا توجد فرصة لإدخالها في القطاع المصرفي بشكل قانوني وكانت النتيجة إنشاء بنك إسلامي لإيداعها في هذا البنك وإعادة توظيفها لتمويل كثير من المشروعات الخاصة لبعض المنتفعين من النظام'.

وتابع د. أبو ظريفة قائلا: 'هذا كله انعكس على الاقتصاد في غزة الذي أصبح مشوها وأصبح القطاع غير الرسمي هو الذي يقوده وليس القطاع الرسمي معلوم المصدر، والنتيجة زيادة الطبقات الفقيرة فقرا, والطبقة المتوسطة بدت اقرب إلى الطبقة الفقيرة منها إلى الطبقة الغنية, وفي النتيجة هناك فرز طبقي غير مسبوق في غزة له انعكاساته السلبية على المجتمع الفلسطيني في الأجل القريب والمتوسط'. مشيرا إلى انه 'في ظل التشوه الاقتصادي بغزة تصبح عملية إنعاش الاقتصاد صعبة في المنظور القريب'.

القرار الاقتصادي يملكه الأثرياء الجددأثرياء كل مرحلة يلعبون دوراً في التأثير على الحياة الاقتصادية في المجتمع، لكن أثرياء الأنفاق لم يتم دمجهم بعد في مجتمع المال والأعمال، ولذلك فان حساباتهم بعيدة عن منطق الاقتصاد الوطني.ويقول الخبير الاقتصادي عمر شعبان: 'هذه ظاهرة غير طبيعية أفرزتها ظروف الحصار والانقسام التي تعرض لها قطاع غزة، عقب ظهور تجارة الأنفاق منذ عام 2007 وحتى الآن، وهي ظاهرة لها انعكاساتها على الاقتصاد الفلسطيني، وأي أزمة فيها مستفيدون، فهناك مستفيدون من الحروب والحصار وعملية السلام والانفتاح وغير ذلك، هؤلاء المستفيدون يصبحون أداة مؤثرة في اقتصاد المجتمع الذي يعيشون فيه'.

ويضيف شعبان: 'ظاهرة الأثرياء الجدد تبرز طبقات معينة، تكون مؤثرة على متخذي القرار، ولا شك أنه منذ خمس سنوات أصبح القرار الاقتصادي يملكه هؤلاء الأثرياء الجدد من خلال التحكم بأسعار الأراضي ومواد البناء والسيارات وغيرها من السلع الغذائية والتموينية والأجهزة بمختلف أنواعها'.ويشير شعبان إلى أن قوة المال لدى الأثرياء الجدد تعكس نفسها على متخذي القرار، وأثرياء كل مرحلة يلعبون دوراً في التأثير على الحياة الاقتصادية في المجتمع، لكننا نجد فرقا بين دور رجال الأعمال القدامى والجدد، وأثرياء الأنفاق لم يتم دمجهم بعد في مجتمع المال والأعمال، ولذلك فان حساباتهم بعيدة عن منطق الاقتصاد الوطني، أي أنهم لا يعيرون المنظومة الاقتصادية للمجتمع أي اهتمام ولا يضعونها في اعتبارهم لأنهم لم يصبحوا بعد جزءا منها، وهذا احد الأخطار التي تواجه الاقتصاد في قطاع غزة.ويعتبر شعبان ظاهرة أثرياء الحصار أو الأنفاق ظاهرة غير شرعية، ولها أضرار ملموسة وغير ملموسة على واقع المجتمع الفلسطيني، ويقول: 'تجار الأنفاق اتجهوا لشراء الأراضي والسيارات وإقامة المباني وهي مشاريع غير مؤثرة في واقع الاقتصاد الفلسطيني لان أثرها سيزول، وأدت لارتفاع أسعار الأراضي والسلع ما أثّر على المجتمع والطبقة المتوسطة والفقيرة'. وأضاف: 'هذه الطبقة من الأثرياء تعمل خارج القنوات الرسمية، ولا بد من دمجها في الاقتصاد الفلسطيني عبر برامج ودورات وفتح قنوات استثمارية ومشاريع يكون لها تأثير دائم على واقع الحال في قطاع غزة، وحتى لا تضيع أموالهم بانتهاء العمل في الأنفاق، فهم بحاجة لمشاريع يرتقون بها ويخدمون مجتمعهم'.ويضيف شعبان: 'حركة المال لأثرياء الأنفاق لا تتدفق عبر القنوات الرسمية في البنوك، وبالتالي يصعب حصرها، وتأثيرها في الاقتصاد يكون ضعيفاً'.

ويربط الخبراء ظاهرة الأغنياء الجدد مع عمليات تبييض الأموال التي تجري في قطاع غزة، ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر د. معين رجب: 'ظاهرة الأغنياء الجدد ملموسة سواء في قطاع غزة والضفة أو العالم، أصحاب الأموال لديهم القدرة على توظيف أموالهم بخلاف رجال الأعمال متوسطي الحال، رجال الأعمال الكبار لديهم القدرة على المجازفة والمخاطرة ويخلقون فرصا تزيد من أموالهم، ولكنهم لا يقومون بواجبهم تجاه المجتمع'.

ويضيف د. رجب: 'الأثرياء الجدد لا يقومون بسداد الضرائب المستحقة عليهم نتيجة ظروف الحصار التي تجعل من الصعب التحقق من أموالهم وفرض الضرائب عليها، كما أن مبادلات الأنفاق من السلع والأموال لا تخضع للرقابة ولا تعتبر جزءا من حركة المال التي تتم عبر قنوات رسمية، وبالتالي تأثيرها الاقتصادي يبقى محدوداً لصالح الأشخاص أنفسهم دون أن تعود الفائدة على الاقتصاد'.ويشير إلى أن الأغنياء الجدد يقومون بعمليات تبييض الأموال من خلال أنشطة غير رسمية وغير مشروعة سواء عبر التجارة من خلال الأنفاق أو الاتجار بالأراضي والعقارات والسيارات وغير ذلك، ويقول: 'هناك اتساع لظاهرة كبار الأغنياء ويقابلها اتساع ظاهرة الفقر الأمر الذي يعمق المشاكل الاجتماعية'.ويضيف د. رجب: 'قد يكون الحصار فرض ظروفا استثنائية وفرض حالة من عدم تطبيق القوانين والأنظمة، التي أدت إلى عدم ضبط حالة النشاط الاقتصادي وحركة المبادلات مع الخارج، وأضرار ظاهرة الأثرياء الجدد تتمثل في تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة من المجتمع، قد لا تتيح استثمارا طويل المدى يفيد المجتمع'.

ويوضح أن بروز ظاهرة المليونيرات الجدد أدى إلى الاتجاه نحو أنشطة أقل أهمية مثل إقامة المجمعات الاستهلاكية التي أضحت تشهد مضاربات وأصبح انتشارها يزيد على حاجة المجتمع، كما أدت ظاهرة الأثرياء الجدد إلى ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات الأمر الذي اضر بالمواطن البسيط الباحث عن سكن وبيت يؤويه.وشدد د. رجب على ضرورة أن يكون للسلطة الوطنية دور من خلال تشجعيهم على أنشطة استثمارية مؤثرة تعد إضافة للاقتصاد الوطني، وهناك مؤتمر الاستثمار الفلسطيني الذي سيعقد في قطاع غزة في شهر أيار من اجل استقطاب هذه الفئة، ودعا الحكومة لتقديم تيسيرات أو إرشادات للأثرياء الجدد للاستثمار فيها، لان هناك إساءة في استخدام في هذه الأموال أدت إلى ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات والذهب وأشكال مختلفة من الثروة.

نسبة البطالة في قطاع غزة: 38 %- 44 %ورغم طفو ما تسمى بظاهرة الأغنياء الجدد في قطاع غزة، إلا أن نسبة البطالة والفقر لا تزال تتعدى كل الأرقام القياسية في العالم.ويقول رئيس قسم الاقتصاد في كلية التجارة بجامعة الأزهر د. سمير أبو مدللة: 'هذه الظاهرة المتمثلة في أمراء أو أباطرة الحرب والحصار تظهر في كل بلد في حالات الحروب والحصار، وظهرت في العراق ابان الحصار الدولي، كما ظهرت في ليبيا في الثمانينيات، والأثرياء الجدد في قطاع غزة أو أمراء وأباطرة الأنفاق التي يبلغ عددها ما بين 900 – 1200 نفق أدت إلى ظهور أكثر من 600 مليونير في قطاع غزة حسب دراسة علمية أجريتها، وهؤلاء لم يكن لهم أي نشاط، واستفادوا من فروقات الأسعار والتهريب عبر الأنفاق لتحقيق أرباح وغنى فاحش'.

ويضيف د. أبو مدللة: 'كما أن تجار الأراضي قاموا باحتكار الأراضي ورفع أسعارها بشكل مخيف وفلكي في إطار عمليات غسيل الأموال، فمنزل في جباليا مساحته 100 متر مربع في شارع الترنس أصبح يباع بـ 400 ألف دينار أردني، وهي أسعار غير طبيعية ولها آثار اقتصادية واجتماعية خطيرة'.ويشير د. أبو مدللة إلى أن سعر دونم الأرض في مدينة غزة وصل إلى ما بين أربعة إلى خمسة ملايين دولار، وهذا ارتفاع غير طبيعي له علاقة بسماسرة وتجار أراض باتوا يحددون ويرفعون أسعارها في إطار عمليات غسيل وتبيض الأموال، ويقول: 'كما طفت على السطح ظاهرة إنشاء المولات والمجمعات الاستهلاكية في قطاع غزة، وهذا لا يدل على تحسن اقتصادي وإنما على غنى فردي وغسيل أموال، فهذه مشاريع لا تشغل ولا تساعد في القضاء على الفقر الكبير المنتشر'.

ويؤكد أبو مدللة أن معظم تجار الأراضي وأصحاب الأنفاق هم إما من حماس أو قريبون من حماس، ويقول: 'وفي مقابل ظاهرة الغنى الفردي ترتفع نسبة البطالة في قطاع غزة لتتراوح ما بين 38 % إلى 44 %، والبطالة في صفوف الشباب 63 %'، ويقول: 'الأوضاع الاقتصادية والحصار أدت إلى ظهور طبقة من الأغنياء وهو غنى فردي ليس له اثر على تطور الاقتصاد وتوفير فرص العمل'.ويعرب أبو مدللة عن خشيته من عدم إمكانية عيش الطبقة الوسطى والموظفين، في ظل تحكم الأغنياء الجدد بالأسعار، فسعر الشقق السكنية في المخيمات أصبح لا يقل عن 60 او65 ألف دولار، بينما الشقق في مدينة غزة أصبح سعرها 120 ألف دولار، والشقة 'غير المشطبة' سعرها 110 ألف دولار، ولا يستطيع أي من أفراد الطبقة الوسطى شراءها، ونسبة البطالة في ازدياد، فالجامعات تخرج 40 ألف خريج، والسلطة لا تستطيع توظيف سوى 7 آلاف خريج، وهناك ما بين 28 % إلى 30 % من الشباب أصبحوا يفكرون في الهجرة'.

ويضيف: 'المشاريع التي يقيمها الأغنياء الجدد أو أغنياء الحصار هي مشاريع ليست إنتاجية، ومعظم أعمالهم تقوم على تهريب الأموال من قطاع غزة واستبدالها بالسلع وهذا أدى إلى ظهور أزمة السيولة في قطاع غزة'. ويدعو أبو مدللة الحكومة في غزة التي تعتمد نظام السوق الحرة إلى وضع ضوابط يتم بموجبها توجيه السوق للصالح العام، والعمل مع أغنياء الحصار لاستثمار أموالهم في مشاريع دائمة تفيد المجتمع، ويدعوها أيضا لدعم المشاريع الصغيرة التي لا تكلف كثيراً وإنما حوالي عشرة آلاف دولار للمشروع من خلال توفير قروض ميسرة للشباب الباحثين عن عمل.

ظاهرة الحاكم التاجريحذر الخبراء من الآثار السلبية لظاهرة الأغنياء الجدد على المجتمع، ويقول الأخصائي الاجتماعي د. سمير زقوت: 'ظاهرة أثرياء الحصار ذات تأثير خطير لان عددهم كبير جداً، كانوا بسطاء وفجأة الغنى الشديد يغير في عاداتهم وسلوكهم، فمثلاً تخرج 160 طالبا من كلية الهندسة في الجامعة الإسلامية في الدفعة الأخيرة لا يعمل منهم سوى اثنين في شركات عائلية، وعندما يرى هؤلاء المهندسون وهم من صفوة المجتمع ان (الحظ ضرب) مع هؤلاء الأغنياء في تجارة غير مشروعة بل محرمة أحياناً، ليصبحوا سادة المجتمع، ويشترون الذمم، فان ذلك يؤدي إلى إحباط الشباب'.ويضيف د. زقوت: 'للأسف الشديد والمحزن هؤلاء الناس الذين اغتنوا بشكل فجائي وغير منطقي، بعضهم تجار مخدرات، ويعملون في غسيل الأموال عن طريق تجارة الأراضي والعقارات، فسعر متر الأرض في مدينة محاصرة أغلى من وول ستريت في منهاتن باميركا، وهذا ستكون له آثار كارثية من الناحية الاجتماعية والثقافية'.

ويعبر د. زقوت عن تشاؤمه من إمكانية دمج المليونيرات الجدد في حركة المال والسوق ليكونوا أداة بناء ويقول: 'لن يكونوا معول بناء، بل معول هدم في المجتمع، لا توجد تجارة حقيقية في غزة، فتجار العملة البسطاء باتوا يربحون مليون دولار في الشهر، هذه حالة من الجنون التي تخرج عن كل القيم، وغزة خارج الحلول، لأنه لا يمكن أن تكون تاجراً وحاكماً في نفس الوقت'.ويضيف: 'ظاهرة الحاكم التاجر أدت لظهور المطاعم والأسواق والمولات، ولا اعرف هل من المنطقي تقليد دبي في مدينة محاصرة ومدينة مقاومة؟'.

ويقول عميد كلية الإعلام في جامعة الأقصى د. زهير عابد: 'في كل زمان يوجد متسلقون وانتهازيون يحققون أرباحا هائلة بغض النظر عن الوسيلة سواء التهريب أو الغش أو التزوير والاستغلال واحتكار السلع، وهؤلاء في الغالب لا يتمتعون بمصداقية وليس لديهم أي قيم أو أخلاقيات في كيفية تحصيل أموالهم، ولكن الظروف هي التي تساعد هؤلاء على تحقيق مآربهم'.

ويؤكد أستاذ الإعلام المشارك في كلية الإعلام بجامعة الأقصى د. احمد أبو السعيد ان الأغنياء الجدد أو أغنياء الحصار ليست لديهم امكانيات لاستغلال أموالهم في الاتجاه الصحيح، بل ذهبوا لاستغلالها في شراء الأراضي والعقارات والسيارات الفخمة وإقامة المباني والمشاريع الاستهلاكية وغيرها من المشاريع غير المثمرة والتي أضرت بالمواطن البسيط.