عندما نفد صبر فيليسيا لانغر، ولم تعد تطيق الحياة في إسرائيل، غادرتها نهائياً في عام 1990. ويوم أن فعلت ذلك، أبلغت صحيفة «واشنطن بوست» بنبرة حزن، أنها تغادر يائسة محبطة، لأنها لم تعد تتوقع أن يظفر الفلسطينيون بحقهم في العدالة، من الدولة الصهيونية. اختارت الإقامة الدائمة في مدينة تيبينغين الجامعية التابعة لولاية «بيدن فيرتيمبيرغ» الألمانية. هناك، استقرت في وظيفة تعليمية، ودأبت على الكتابة في قضايا العذاب الفلسطيني الشامل، منافحةً عن حق شعبنا في الكرامة!

في أيام قنوطها ذاك، أنصفها القائمون على المعايير المجردة، لقياس مجهودات النبلاء في الدفاع عن قضايا المظلومين، فمُنحت سريعاً وسام «رايت ليلفلهوود» الذي يصفونه بـ «جائزة نوبل البديلة» المخصصة للناشطين الرواد، في مجالات حقوق الإنسان والتنمية المستدامة، والصحة والتعليم والسلام العادل. ثم منحتها مؤسسة برونو كرايسكي النمساوية، وسامها الأرفع، كمدافعة عن حقوق الإنسان. وبعد سنين، اختصتها الإدارة اليهودية لجائزة «إريخ ماهسام» من قلب ثقافة العداء اليهودي والإنساني للنازية، بمنحها جائزة الشاعر والكاتب المرموق، المنتحر ألماً على ما لحق بقومه اليهود من فظائع نازية. وكان تعليل اختيار فيليسيا، لنيل تلك الجائزة، بهذه العبارة: «تقديراً لاستمرار هذه السيدة النبيلة، في نضالها من أجل الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني»! 

في ذلك السياق المتوقع، من التقدير لفيليسيا لانغر، كانت فلسطين، الشعب والوطن والقضية، تربح النقاط في ردهات الثقافة اليهودية نفسها، كضحية لنمط بذيء من الفاشية الجديدة. وبأنفاس فيليسيا وبآرائها التفصيلية، كشاهدة عيان على مأساة شعب مستلبة حقوقه، ما زال يتعرض لأقسى ممارسات الظلم والهمجية؛ ظللنا نحن حتى في تلك الأوساط الثقافية اليهودية، نقف على الجانب المخصص للآدميين وللبشر، على الخط الفاصل بينهم وبين الظلاميين والظلمة من عديمي الإنسانية!

في صيف عام 2009 وبسبب خطأ إجرائي يتعلق بالموعد، تخلفت آسفاً عن حضور حفل تسلمها في شتوتغارت، وسام الصليب الفيدرالي الذي يمنح باسم الرئيس الألماني هورست كوهلر. وكان متطرفو اليهود وأصدقاء حكومة إسرائيل، شنوا هجوماً عاتياً على قرار منح الوسام لفيليسيا. بل إن أحد حاملي هذا الوسام وصف الخطوة، بأنها تُلحق ضرراً فادحاً بسمعة إسرائيل في أوروبا. ووصف رئيس المجلس المركزي اليهودي في المانيا، السيدة لانغر بأنها محاربة معادية لإسرائيل وكارهة لها بحماسة. وبسبب الهجمة، اصدر مكتب الرئيس الألماني بياناً أعرب فيه عن الأسف للتداعيات التي رافقت منح فيليسيا للوسام، وهو الأمر الذي لا يجيز القانون التراجع عنه!

ظلت فيليسيا تتحرك، فتتحدث وتنشط وتحس وتفكر، من داخل نصوص ما كتبت مبكراً. حملت كتبها على كاهلها، ولم تغادر سطورها، مثلما لم تغادرها السطور وعناوين المؤلفات: بأم عيني، هؤلاء إخوتي، زمن الحجارة، الخوف والأمل، المرافعات أمام المحاكم والحقيقة في فلسطين، انتفاضة الفلسطينيين الجديدة.. الخ!

فيليسيا، ولدت لأب وأم من اليهود البولنديين. مفارقات كبيرة مرت على طريق خياراتها الشخصية. اعتنقت الفكر الشيوعي على الرغم من موت أبيها في أحد سجون ستالين، بعد أن هاجر مع أسرته الى روسيا. في عام 1950 هاجرت الى فلسطين، مع زوجها الذي كان أحد الناجين من النازية. درست القانون في الجامعة العبرية، وما إن وقعت حرب 1967 حتى حسمت أمرها ضد الاحتلال وأسست مكتبها الخاص للدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين، ولفضح ممارسات نسف البيوت والتعذيب والخروقات الإنسانية. وخاضت مع بسام الشكعة ورؤساء البلديات المنتخبين في الضفة، معركتهم السياسية على طريق نضال منظمة التحرير الفلسطينية. وتحملت الكثير، بل أظهرت في مقابلاتها مع المعتقلين، روحاً إنسانية رفيعة.

إن وسام الاستحقاق والتميّز، الذي منحه الرئيس أبو مازن لفيليسيا لانغر في برلين، هو بمثابة إقرار بأهمية وعذوبة كل ومضات الأمل، التي تصنعها هذه السيدة، وسط هذا الدجى. فمن يتابع نشاط فيليسيا، في ساحة الثقافة السياسية في الغرب، وحيثما بدأت الأكذوبة الصهيونية تنسج خيوطها قبل أكثر من قرن ونيف؛ يحس بالأمل الذي لن يخبو. نحن أصحاب قضية تكسب من ثقافة الآخرين، وتتعمق في وجدان أصحابها واصدقائها وثقافاتهم، ولن يبددها الظلاميون المعتوهون العتاة، الذين يطفو فعلهم القميء، وتفوح لغتهم العفنة الاستعلائية المريضة، في الراهن القبيح. ألف تحية لفيليسيا، لمناسبة الوسام والأمل!