رغم الفتور الواضح الذي تعاني منه اللقاءات الميدانية الجارية في غزة بين حركتي فتح وحماس بخصوص تنفيذ التزامات المصالحة التي تبلورت من خلال اللجان التي تم تشكيلها، مثل لجنة الحقوق والحريات العامة « الاعتقالات ، الاستدعاءات، جوازات السفر»، ولجنة المصالحة المجتمعية التي تشمل الطيف الأوسع من شرائح المجتمع الفلسطيني، وكذلك الموضوعات الطارئة مثل المقرات المصادرة لفتح ولمنظمة التحرير الفلسطينية، أقول رغم الفتور الواضح، وعدم نجاح الطرفين المتحاورين حتى الآن في إحداث اختراقات قوية وملموسة، إلا أن المصالحة في حد ذاتها أصبحت ضرورة ملحة جدا جدا جدا عند العقل السياسي الذي يقود الطرفين، وأن هذه المصالحة مثلما نضجت ظروفها الداخلية الفلسطينية، فقد نضجت أيضا ظروفها الإقليمية المحيطة بنا مباشرة في العالم العربي، في مصر التي يفوز فيها الإخوان المسلمون عبر حزب الحرية والعدالة بنصيب الأسد في الانتخابات، وكذلك في تونس التي تفوز فيها حركة النهضة الإسلامية بما يمكنها من إدارة البلاد بشراكة واسعة النطاق، وكذلك تلك الإشارات الصادرة من بعض الدول الأخرى في ليبيا، وفي اليمن، وفي سوريا مع أنها نموذج أكثر تعقيدا ولكن بوجه عام فإن ظروف الإقليم من حولنا تعطي للقيادة السياسية الجديدة محددات حاسمة، بأن طريقها إلى النجاح هو طريقها إلى التغير وليس العودة إلى استنساخ النماذج والأوهام . نحن في فلسطين عموما، وفي قطاع غزة على نحو خاص، محكومون قطعا بهذا الاستنتاج الحاسم بأن التيارات الإسلامية لكي تؤكد أهليتها واستحقاقها للحكم وللمشاركة وللنجاح، فانها يجب أن تعيد ترتيب الأولويات الوطنية بما يخلق ويكرس العناصر الموضوعية لهذا النجاح المطلوب .

هناك عثرات صغيرة تواجهنا، نأمل أن نستطيع التغلب عليها، أهمها أن الاحتلال الإسرائيلي الجاثم فوق الصدور سواء بالوجود المباشر أو بالوجود غير المباشر يستطيع بوسائل عنيفة وغير عنيفة أحيانا أن يتدخل ليحبط بعض ما حققناه من انجازات على الصعيد الوطني أو يؤخر معدلات التصاعد الإيجابي في حواراتنا الداخلية! ولكن هناك أيضا بقايا أفكار ومعادلات قديمة تعشش في عقول البعض تجعلهم يقرأون الصورة من حولنا بطريقة خاطئة ومعاكسة بحيث يتصورون ما يحلو لهم من أوهام! فهؤلاء مثلا عندما يرون هذه الحوارات المكثفة بين الأمريكيين وحزب الحرية والعدالة، يتوهمون أن الواجبات الملقاة على عاتق التيارات الإسلامية قد خفت كثيرا، وأنهم أصبحوا أكثر مرونة في الحركة باتجاه بعض الشعارات القديمة، دون أن يدركوا أن المصاعب الحقيقية التي تواجهها البلدان التي فازوا فيها في الانتخابات تتطلب عقلا سياسيا جديدا، ومرونة أعلى، وتعاملا شجاعا مع الحقائق كما هي . فلا أحد من الناجحين يرغب أن يحمل على كاهله تركة الفشل! ولا أحد من الناجحين يرغب أن يبدأ التجربة الجديدة وطريقه مزروعة بالألغام الكبرى !!! ولا أحد من الناجحين يريد أن يحمل فوق طاقته وخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ولذلك فهم يؤمنون أكثر من ذي قبل بأن الحمل يجب أن يتوزع، والمشروع يجب أن يتوسع، والخيارات يجب أن تكون كثيرة وإيجابية في آن واحد.

نحتاج فلسطينيا وخاصة في حركتي فتح وحماس إلى فهم هذه المعادلات الجديدة التي تتكرس في المنطقة من حولنا، ونحن في حركة فتح - لولا بعض اضطراباتنا الداخلية المزمنة - كنا سنصبح الجهة الأولى والأسرع في فهم هذه المعادلات الجديدة، بحكم أن حركة فتح في تكوينها الأول ثم في انطلاقتها الكبرى ثم في ممارساتها السياسية الواسعة التي جعلتها تقود الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية عن استحقاق وجدارة طيلة هذه العقود، هي أصلا صاحبة نظرية التأهل الذاتي أي سرعة التغير الإيجابي في هيكلياتها واستراتيجياتها وبرامجها السياسية من أجل أن تكون في أقصى لحظات الحضور وفي أقصى لحظات الفعل وفي أقصى لحظات التعاطي الجدي مع المتغيرات الجديدة .

المصالحة الفلسطينية قادمة لا محالة رغم كل محاولات التلكؤ من أنصار الحرس القديم الفلسطيني إلى أي جهة انتموا، المصالحة الفلسطينية حاجة فلسطينية ملحة ولكنها أيضا حاجة إقليمية ملحة في هذه المرحلة التي تتبوأ فيها القيادة تيارات جديدة تريد أن تكرس نفسها في العالم عبر الواقعية والتعاون والفهم المشترك والمبادرات الإيجابية، ولذلك علينا أن نكون مهيئين للتفاعل مع هذه الحقيقة الكبرى، لأن سمعة الفلسطينيين ستسوء كثيرا إذا ثبت أنهم الأقل قدرة على قراءة ما يجري حولهم بفهم عميق !!! إنهم أصحاب القضية، إنهم أصحاب المشروع الأكبر في هذه المنطقة، مشروع إعادة زرع كيانهم الوطني في أرضهم، وهذا المشروع نفسه يحتم عليهم دائما أن يكونوا متنبهين جدا وأن يكونوا أكثر قدرة على أن يزرعوا أنفسهم في اللحظة السياسية الحاسمة