في ظل استمرار السياسات الأميركية الداعمة والشريكة لإسرائيل، تواصل حكومة الاحتلال نهجها القائم على العدوان والإبادة والاقتلاع العرقي والتوسع الاستيطاني، من خلال إعادة الاحتلال عبر دخول دباباته إلى مخيماتنا ومدننا بالضفة والتهديد بعودتها إلى قطاع غزة، الأمر الذي يريده نتنياهو، متجاهلة كافة المساعي لوقف عدوانها ورفضها الواضح لتحقيق تسوية سياسية عادلة.

- إسرائيل الكبرى وإنكار الوجود الفلسطيني

منذ اغتيال إسحاق رابين على يد متطرفيهم، باتت إسرائيل كما كل حكوماتها السابقة من الليبرالية الصهيونية، غير معنية بأي حل سياسي، بل تبنت سياسات أكثر تطرفًا تهدف إلى تكريس واقع الاحتلال الاستيطاني وترسيخ نظام الفصل العنصري وصولاً إلى محاولة تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى وشطب حل الدولتين وفق قراراتهم بالكنيست والوقائع الجارية على الأرض وعدائهم لمفهوم السلام أصلاً وبعدم قبول الآخر.

لكن هذا الواقع الاستعماري المتسارع من التطرف الإسرائيلي لم يعد يقتصر فقط على رفض الحقوق الفلسطينية، بل امتد ليشمل إنكار الوجود الفلسطيني ذاته. التصريحات المتطرفة والعنصرية لمسؤولي الاحتلال، جنبًا إلى جنب مع القوانين العنصرية والممارسات الوحشية، تكشف عن مشروع إسرائيلي يستهدف القضاء على الهوية الوطنية الفلسطينية، وتحويل الأراضي المحتلة إلى مناطق خاضعة لهيمنة إسرائيلية كاملة ببعدٍ توراتي، وبدعم أميركي واضح ومطلق.

لذلك باعتقادي، وفي ظل الرؤية الإسرائيلية القائمة والتدخلات الأميركية الشريكة، يتوقع أن تشهد الضفة الغربية تحولات كبيرة نحو تقويض بل ومحاولة إنهاء السلطة الوطنية الفلسطينية، وتشكيل سلطات "متجددة" خدماتية تحت إشراف أمني إسرائيلي- أميركي بعيدًا عن الرؤية الوطنية التحررية، وتنفيذ ما يجري الترتيب له لقطاع غزة.

- إفشال مسار التسوية، ماذا بعد؟

منذ ثلاثة عقود، حاول الفلسطينيون تحقيق السلام عبر مختلف المسارات السياسية والاتفاقيات، لكن دولة الاحتلال قابلت هذه الجهود بالمزيد من الإرهاب والاستيطان والتنكر لما تم التوقيع عليه. لم يكن التراجع الفلسطيني ناتجًا عن خيارات المقاومة التي هي حق لكل شعب تحت الاحتلال، بل جاء نتيجة لتعنت إسرائيل وتنكرها للاتفاقيات الموقعة وسياستها القائمة على القوة وفرض الأمر الواقع. فكلما اقترب الفلسطينيون من خيار التسوية، زادت شراسة الأحتلال في استهداف الأرض والإنسان.

إن ما نواجهه اليوم من فشلٍ في مسار التسوية السياسية يتطلب منا التفكر في استراتيجيات جديدة. فالإرادة والعقل وثقافة المقاومة بمعانيها المختلفة والمتعددة الأشكال التي تحدث عنها الزعيم الخالد "أبا عمار" حول أنها ليست بندقية ثائر فحسب، هي  السبيل لتحقيق الحرية. فالأمال لا تتحقق عبر الآلة العسكرية والمقاومة المسلحة فقط، ولا من خلال مفاوضات ممتدة دون حماية وبيئة حاضنة. بل من خلال المقاربات السياسية التي تعتمد على التفاوض والتحليل السليم للأوضاع الإقليمية والدولية واستخدام أوراق القوة بما فيها أشكال المقاومة المختلفة، لأن العالم لا يحترم الضعفاء.

- الخيارات الفلسطينية، نحو استراتيجية جديدة

ليس بالضرورة أن تكون الحرب أو العملية العسكرية للمقاومة الخيار الوحيد في ظل الاختلال الواضح في موازين القوى، ولكن أيضًا التعويل على إضعاف طرف فلسطيني لصالح آخر لن يخدم القضية بأي حال. إدارة الأزمة لا تكفي، فالتفاوض يحتاج إلى حد أدنى من القوة أو امتلاك أوراق قوة وضغط، سواء كانت سياسية أو شعبية أو قوة ناعمة. لا يمكن لشعب مُنقسم أو من يقبل بإضعاف جزء آخر منه أن يحقق مكاسب استراتيجية. فحتى أقرب الحلفاء لن يدافعوا عن طرف ضعيف ومنقسم على نفسه.

- وحدة الصف الفلسطيني لم تعد مجرد خيار، بل ضرورة وجودية

الانقسام الداخلي الفلسطيني الذي حدث بالأصل من خلال الانقلاب الأسود ومن ثم استمر بفعل تغييب أشكال الديمقراطية الانتخابية، رغم الوصول إلى اتفاقيات لم تنفذ والتي كان آخرها في بكين، لا يؤدي إلا إلى مزيد من التراجع، بينما يعزز التكاتف والوحدة الوطنية من قدرة الفلسطينيين على فرض معادلة جديدة. إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس صلبة وموحدة وديمقراطية أصبحت المهمة الأكثر إلحاحًا اليوم، لأن الأمل في مستقبل أفضل لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال وحدة الإرادة والعمل والشراكة بين كافة فئات مجتمعنا على قاعدة شركاء بالدم شركاء بالمصير. وعلينا أن ندرك جيدًا أن هذه الوحدة يجب أن تكون مبنية على استراتيجية سياسية واضحة تراعي جميع الأطراف الفلسطينية من كل التوجهات الفكرية والتنظيمية والمستقلين على قاعدة استقلالية القرار الوطني من جهة، ولأن الشعب هو مصدر السلطات وفق وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني التي يتطلب تجسيدها بإجراء الانتخابات العامة بأقرب فرصة ممكنة من جهة أخرى، ولأن الوحدة هي تعبير عن قواسم وطنية مشتركة، وهي قاعدة الانتصار كما كان يكرر الأخ مروان البرغوثي.

- منظمة التحرير الفلسطينية، تطوير الأداء لمواكبة التحديات

في ظل هذه التحديات المتفاقمة، لا يمكن الحديث عن استراتيجية وطنية جديدة دون التطرق إلى دور منظمة التحرير الفلسطينية لمكانتها الدولية وباعتبارها صاحبة الولاية القانونية والسياسية على جغرافية الدولة الفلسطينية المحتلة من جهة، وعن دور "فتح" تحديدًا في ذلك كحركة تحرر وطني وعمود فقري للمنظمة من جهة أخرى. هناك نقاش واسع اليوم في الساحة الفلسطينية حول ضرورة تطوير أدائها مع الحفاظ عليها كممثل شرعي ووحيد لشعبنا الفلسطيني، وهي المكانة التي لا يجادل بها أي وطني فلسطيني. ولكن هذا لا يعني الإبقاء على أدائها كما هو، بل يتطلب تطويرًا وتحديثًا بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة السياسية والمتغيرات الإقليمية والدولية الجارية وطبيعة مسار الزمن. وحدها هذه الخطوة وبضمان الحريات العامة وفق الأنظمة والقوانين يمكنها تعزيز مكانة المنظمة بين أبناء شعبها أولاً ومواجهة فشل التسوية السياسية والبحث عن الخيارات الموضوعية والعقلانية الأخرى.

- التغيرات الإقليمية والدولية، فرصة لتغيير البيئة السياسية

اليوم نشهد في المنطقة تغيرات غير مسبوقة في السياسات الأميركية تحت إدارة الرئيس ترامب، وما يطرحه من تصورات تؤجج الصراع في المنطقة وفقًا لواقعيته الفوضوية السياسية ومبدأ أميركيًا أولاً، حيث يبدو أن الفجوة بين الأطراف الدولية تزداد. علينا أن نكون واعين بما نملك من أوراق قوة يمكن استخدامها لتغيير المعادلات الدولية في المنطقة. فالدول العربية وأمام قمتها المرتقبة بعد أيام بالقاهرة، والتي تمتلك قدرة على تأمين خطوط التجارة العالمية، ومقدرات نفطية ضخمة، وعضوية فاعلة في المنظمات الإقليمية والدولية، تمتلك أوراق قوة أن أرادت استخدامها سيكون لها دور محوري في إعادة تشكيل البيئة السياسية التي تتفاعل مع ملف الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي وحقوق شعبنا. تعزيز هذا الدور ومواجهة سياسة الهيمنة الأميركية، وفحص رهانات الأطراف الدولية، هو السبيل لتحديد الخطوات المستقبلية.

إذاً، فإن المسألة برمتها تدور بين محاولات التصفية وممكنات التسوية. وعلينا أن ندرك أن الصراع هو صراع إرادة سياسية وسردية رواية ورؤية ووجود، وإذا توفرت الإرادة، يمكن تأسيس أولى قواعد رواية سرديتنا ورؤيتنا الإستراتيجية التي من شأنها تحريك المياه الراكدة نحو الوصول إلى الحق والحرية والعدالة.