بقلم: دنيا حسين
في شوارع رام الله، حيث تمتزج الحياة اليومية بالفن، يقف الشاب الطموح جارح أبو كرش (20 عامًا) محولاً الجدران الرمادية إلى لوحات زاهية تنبض بالأمل والجمال.
بدأ رحلته الفنية بالتعلم الذاتي، حيث كان يحمل علبة الرذاذ ويرسم بحماس فطري. لكن طموحه دفعه إلى السعي للتطور، فالتحق بمعهد متخصص لتعلم المزيد عن تقنيات الرسم وأسرار هذا الفن.
اليوم، لا يكتفي جارح بتجميل مدينته فحسب، بل يترك توقيعًا مختلفًا على جدرانها عندما يتناول قضايا مجتمعية وسياسية بلمسة فنية تحمل اسمًا مستعارًا. بهذا، يجمع جارح بين شغف الفن ورسالته، مسخرًا موهبته لخدمة مدينته وقضاياها.
- البدايات البسيطة.. الطموحات الكبيرة
يرسم جارح الجرافيتي منذ 7 سنوات، ويدرس حاليًا فنون بصرية، كان يرى دومًا وهو في الطريق إلى منزله جدارية كبيرة ذات ألوان زاهية ولافتة، وفي كل مرة كان يمر من مكان الجدارية يتأملها كأنه يراها للمرة الأولى. علم أن هذه الجدارية هي لرسام من مدينة القدس المحتلة ملقب بـ (Justice)، قرر جارح، والذي كان هاويًا للرسم الحر، أن يتعلم كيف تصنع هذه التحف الفنية. حينما كان عمره 13عامًا وجد في جيبه 7 شواقل من مصروفه، ليشتري بها علبة رذاذ انطلق بها إلى الشوارع ليكتب اسمًا مستعارًا كان يستخدمه عندما كان يلعب ألعابًا إلكترونية وهو "جكر"، ومنذ ذلك الوقت بدأت مسيرته.
في بداياته كان يتعلم بمفرده من خلال البحث والتجربة وتطبيق ما يشاهده من فيديوهات عبر اليوتيوب، ومن هنا بدأ يتطور تدريجيًا، تعرف على رسامين جرافيتي كثر مثل: محمود جمس من الرملة حيث قام بمساعدته، وأيضًا من الأردن الرسام "The Robot"، وكذلك الرسام "Justice" الذي استلهم منه التجربة، وهو ما زال حتى اليوم يتواصل معهم ويطلعهم على مسودات الرسومات و الـ"سكيتشات" الخاصة به، ويأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم.
بعد هذه المرحلة، بحث جارح عن مكان يحتضن موهبته ويدرس هذه الفنون، ليلتحق بمنتدى الفنون البصرية، وبعد مرور عامين من الدراسة فيه اضطر إلى التوقف لمدة نصف سنة بسبب ظروف الحياة والعمل، لكنه نهض من جديد والتحق بـ "الاستديو.. يتبع"، وهي مساحة تعليمية تشاركية قائمة على مبدأ المجاورة بين فنانين ممارسين وطلبة طموحين لتطوير مهاراتهم الفنية.
- الرسومات والتحديات
هنالك رسومات قريبة من جارح، وأحدثها تلك التي رسمها بطريقة غير اعتيادية جذبت انتباه المارة الذين أصبحوا يلتقطون صورًا لها، رسمها بطريقة مكعبات الليجو، إذ أدخل فيها ألوانًا زاهية تلفت الأنظار. يتعلم جارح حاليًا أساسيات الخط العربي والتخطيط، بهدف إدخال الخط العربي إلى رسوماته، حيث مارس ذلك على علب الكهرباء والتي نالت إعجاب المارة.
الرسم على الجدران ليس سهلاً، إذ يتطلب ذلك فحص إن كان هذا الجدار صالحًا للرسم أم لا، فنوع الجدار يلعب دورًا مهمًا جدًا في تحديد ذلك، فليس كل الجدران يثبت عليها الطلاء أو رذاذ الألوان، وهذا يعتمد إن كان سطح الجدار خشنًا أم لا، كما أنه ليست كل الأسطح تستحمل العوامل الجوية بعد الرسم عليها، فهنالك أسطح يمحى عنها الطلاء بعد فترة، ولهذا يسعى جارح إلى اختيار الجدلان المناسبة وفق معايير خاصة.
يواجه جارح صعوبة في شراء بعض الأدوات التي يستخدمها في الرسم، مثل رؤوس أغطية علب الرذاذ، فهنالك عدة رؤوس لرسم الزوايا والخطوط غير متوفرة في الضفة الغربية ويضطر إلى شرائها من الخارج. كما أن ألوانًا خاصة للجرافيتي غير متوفرة هي الأخرى، ويستعين بأصدقائه في الخارج لتوفيرها، الأمر الذي يضع على عاتقه تكاليف إضافية.
غالبًا ما تلقى رسومات جارح ردود فعل إيجابية تدفعه إلى الاستمرار، ويراها المارون بأنها مبعث للجمال، بل إن بعضهم يصاب بالدهشة نظرًا لصغر سنه ودرجة اتقانه لتناسق الألوان، لكن البعض يرى بأن هذا العمل يتسبب بتخريب الجدران. لكنه يعمل على إقناعهم قائلاً: "أنظروا إلى الجدران الرمادية حولكم، هل منظرها يسر العين؟"، ليقنعهم بأن الرسم يبعد أعين الناس عن الشوارع المحطمة ويدفعهم إلى حب البلد، وإلى العيش بأمل.
حينما يتم إيقاف جارح من قبل أصحاب الجدران، يتعامل معهم بحكمة، ويدعوهم للانتظار إلى حين الانتهاء من الرسم، ليخبرهم أنه في حالة عدم إعجابهم سيقوم بطلاء الجدار وإعادته لوضعه السابق، لكنه دائمًا ما ينجح في ترك بصمة تنال إعجابهم.
- المستقبل والطموح
يعمل جارح حاليًا مع مدرسة في السويد للفنون بعد ترشيحه من قبل أساتذته. ويأمل تخصيص مساحات لتشجيع رسم الجرافيتي والتدريب عليه، فالمؤسسات ما زالت مهتمة بالفنون الكلاسيكية، ولا تعير هذا الفن الاهتمام اللازم، لكنه يؤمن أن "الجرافيتي" هي المهنة التي سيمارسها لآخر العمر، وهو يفكر أن يعقد قريبًا معرضًا خاصًا كي يعرف الناس على هذا الفن، ويغير نظرتهم عنه.
جارح نموذج للشاب الفلسطيني الطموح الذي يحول شغفه إلى رسالة، مستخدمًا الفن كوسيلة للتغيير والإلهام. ورغم التحديات التي يواجهها، يواصل السعي لتحقيق أحلامه، ويثبت أن الجدران ليست فقط أسطحًا رمادية صامتة، بل لوحات تنبض بالحياة، وتحكي قصصًا لا تنتهي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها