بقلم: منى أبو طه وعبد الله اللولو وعبد الناصر حجازي
بينما يطوي العالم صفحات جديدة في مسيرة التقدم التكنولوجي والمدني، يجد الفلسطيني في قطاع غزة نفسه عالقًا في صفحة قديمة، حيث تعيده الحروب إلى حياة الخيام التي كان يُفترض أن تكون ذكرى من الماضي.
منذ النكبة عام 1948، ارتبطت صورة الخيمة باللجوء والنزوح، وها هي تعود في عام 2024 لتصبح الملجأ الوحيد لآلاف العائلات التي شُردت إثر حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، والتي اندلعت في السابع من تشرين الأول 2023. هذه الخيام ليست فقط رمزًا لاستمرار المأساة الفلسطينية، بل أيضًا شهادة على العجز الدولي في إنهاء معاناة شعبنا الفلسطيني.
- خيام من أقمشة رقيقة
مع اندلاع الحرب، وجد الآلاف من سكان قطاع غزة أنفسهم بلا مأوى. دُمرت منازلهم أو أصبحت غير صالحة للسكن، فكان الحل الوحيد المتاح هو نصب خيام على عجل في ساحات المدارس، بجانب المستشفيات، وفي الأراضي الخالية.
الخيمة الواحدة، المصنوعة غالبًا من أقمشة رقيقة وأعمدة معدنية، لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار. داخلها، تحاول العائلات توزيع أركانها بين مكان للنوم وآخر للطهي، لكن المساحة لا تكفي دائمًا، ما يجبر الأسر الكبيرة على تقاسمها مع عائلات أخرى. الخصوصية غائبة تمامًا، حيث يسمع الجميع كل ما يدور حولهم، ما يضاعف من الأعباء النفسية على النساء والفتيات بشكل خاص.
يقول مواطن في خيمة بالقرب من دير البلح: "لا يمكن وصف شعورك وأنت تجلس داخل خيمة تعلم أنها لا تحميك من الرياح أو الأمطار. نحن فقط نحاول أن نتعايش مع وضع لا نستطيع تغييره".
- شتاء قاس.. ورضع يرحلون
مع حلول الشتاء، تتحول الخيمة من مأوى هش إلى مصدر معاناة يومية. الأمطار الغزيرة التي تتساقط على قطاع غزة تتسرب بسهولة من أسقف الخيام، فتُغرق الفرش وتُبلل الملابس. البرد القارس يخترق الأجساد، خاصة الأطفال وكبار السن الذين لا يستطيعون تحمل درجات الحرارة المنخفضة.
داخل إحدى الخيام، يروي رجل مسن معاناته: "في كل ليلة، أسمع صوت الرياح وهي تهدد بأن تقتلع الخيمة. نضع قطعًا من البلاستيك على السقف والجدران، لكن المطر لا يرحم. نعيش وكأننا في معركة يومية ضد الطبيعة".
في ظل هذه الظروف، تنتشر الأمراض مثل نزلات البرد والتهابات الجهاز التنفسي، خاصة مع غياب الأدوية أو الرعاية الصحية الكافية.
واستشهد خمسة أطفال من حديثي الولادة، نتيجة اشتداد البرد القارس وانخفاض درجات الحرارة، في الأيام الأخيرة، ممن تقطن عوائلهم في خيام للنازحين، الأمر الذي يكشف عن تفاقم معاناة سكان الخيام في ظل الأجواء الشتوية الباردة مع دخول فصل الشتاء فعليًا منذ أيام الأراضي الفلسطينية.
وقال رئيس قسم الأطفال في مجمع ناصر الطبي بخان يونس، أحمد الفرا، خلال تصريحات صحفية: إن "هؤلاء الأطفال تتراوح أعمارهم بين 4 و30 يومًا، مؤكدًا أنهم توفوا نتيجة البرد الشديد وانعدام الأمن الغذائي بين الأمهات، وعدم القدرة على الوصول إلى مأوى دافئ، الأمر الذي زاد من خطورة حالة الأطفال ووفاتهم، وظهور حالات مرضية جديدة قد تؤدي إلى مزيد من الوفيات".
- مليونا مواطن بلا مأوى.. وخيم متهالكة
تفيد المؤسسات الإغاثية العاملة في قطاع غزة بأن عدد النازحين في تزايد مستمر خلال الأشهر الأخيرة؛ حيث وثقت وجود 543 مركز إيواء ونزوح في جميع أنحاء القطاع الذي دخل كارثة إنسانية حقيقية مع قدوم الشتاء، إذ سيصبح ما يقرب من مليوني شخص بلا مأوى.
وأشارت تقديرات من المؤسسات الإغاثية إلى أن أكثر من 110 ألف خيمة في غزة غير صالحة للسكن الآدمي نتيجة التآكل والتلف، من أصل 135 ألف خيمة، أي أن نحو 81% من الخيام غير صالحة للاستخدام الآدمي كونها مصنوعة من البلاستيك والأقمشة المهترئة.
- قصة وراء كل خيمة
وراء كل خيمة قصة إنسانية تعبر عن الألم والصمود معًا. في إحدى الخيام، تجلس أم مع أطفالها الثلاثة، تحاول أن تُبعد عنهم شعور الجوع والبرد. "أطفالي يسألونني: متى سنعود إلى بيتنا؟ وأنا لا أجد إجابة. أشعر وكأنني أم فاشلة، لكن ليس بيدي شيء".
على بعد أمتار، يقف شاب صغير يروي كيف فقد منزله في القصف، وكيف وجد نفسه مسؤولاً عن عائلته بعد استشهاد والده. "كنت أحلم بدراسة الهندسة، لكن الآن كل همي أن أجد طعامًا نأكله"
هذه القصص تعكس معاناة العائلات الفلسطينية التي تعيش في الخيام، ليس فقط بسبب الفقر أو الحرب، بل بسبب الشعور العميق بالخذلان من العالم الذي تركهم وحيدين في مواجهة قدرهم.
يقول محمد الكفارنة (32 عامًا) النازح من مدينة بيت حانون: إنه "في الشتاء، تصبح الخيمة غير قادرة على مقاومة الأمطار. المياه تدخل إلى داخل الخيمة، ونضطر إلى تدفئة الأطفال باستخدام وسائل بدائية مثل الحطب الذي نشتريه من السوق بأسعار عالية، لكن هذا لا يكفي".
- تأجير خيام
في الواقع، منذ أن سمح الاحتلال بمرور قوافل المساعدات الإنسانية لغزة، طلب الهلال الأحمر الفلسطيني من المانحين إرسال خيام جاهزة للتركيب، غير أن العدد الذي وصل إلى القطاع من الدول الداعمة لم يكف أعداد النازحين التي تزداد يوميًا.
ورغم الظروف المأساوية، يبذل النازحون قصارى جهدهم لمقاومة البرد والمطر، حيث يستخدمون كل ما يتوفر لديهم من أدوات بسيطة لحماية أطفالهم وأسرهم، إلا أن نقص الإمكانيات والاحتياجات الأساسية عائق أمامهم، الجميع يحارب البرد بكل ما يملك، ولكن للأسف ليس الجميع يستطيع حماية أطفاله. وكأن البرد و الشتاء في حياة الخيام النزوح له رأي آخر.
وتعمل عدة مؤسسات عاملة في المجال الإغاثي على توفير خيام حسب إمكانياتها مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"الأونروا" و"الصليب الأحمر الدولي"، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، هيئة الإغاثة الإسلامية. ورغم ذلك فإن المتوفر من خيام لا يكفي.
ورغم الجهود المبذولة من المنظمات الإنسانية، يشكو كثيرون من سوء توزيع الخيام. وتتعدد الأسباب، منها:
- أولاً: بطء الإجراءات البيروقراطية والتعقيدات الأمنية تؤخر تسليم المساعدات.
- ثانيًا: سوء التنسيق ففي بعض الأحيان تحصل عائلات على مساعدات أكثر من حاجتها، بينما تُهمل عائلات أخرى.
- ثالثًا: غياب الشفافية فقلة المعلومات الواضحة حول معايير التوزيع تثير شكوك المواطنين.
- ارتفاع الأسعار في السوق المحلي
تواجه العائلات التي لا تتلقى مساعدات مباشرة أزمة أخرى وهي الارتفاع الكبير في أسعار الخيام في السوق المحلي. فالطلب المرتفع خلال الأزمات يؤدي إلى تزايد الحاجة للخيام وهو الذي يستغله بعض التجار لرفع الأسعار بشكل مفرط. كما أن الحصار المفروض يحد من توفر الخيام المستوردة أو المواد المستخدمة في تصنيعها محليًا.
كما أن زيادة تكاليف الشحن تزيد العبء على الموردين، ما ينعكس على سعر الخيام.
النقص في الخيام المقدمة كمساعدات إنسانية يدفع بعض العائلات للجوء إلى السوق المحلي، ما يجعلها عُرضة لاستغلال التجار. في المقابل، تُبرز هذه الأزمة أهمية وضع سياسات أكثر صرامة لضبط أسعار الخيام وضمان عدالة توزيعها. إذ يتراوح سعر الخيمة الواحدة بين (600) إلى (800) دولار.
- كيف يتم توفير الخيام؟
الخيام تُعتبر أحد المكونات الأساسية للمساعدات الطارئة التي تقدمها جهات دولية مثل "الأونروا" والصليب الأحمر، لكن عملية إيصالها تخضع لإجراءات طويلة ومعقدة منها:
- أولاً: التوثيق والتقييم: فرق ميدانية تجوب المناطق المتضررة لتحديد الأسر التي تحتاج للخيام بشكل عاجل.
- ثانيًا: قيود الحصار ونقص التمويل: تؤدي القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول المواد اللازمة إلى تقليل كمية الخيام المتوفرة، بالإضافة إلى نقص تمويل المنظمات الإنسانية.
- حكايات موجعة
على أطراف غزة، وبين مساحات تملؤها الخيام المؤقتة، تتناثر حكايات الفلسطينيين الذين فقدوا منازلهم في الحرب. ومع كل خيمة قصة حزن مختلط بأمل ضائع، وألم مغطى بطبقة من السخرية التي يستخدمها السكان كوسيلة للتعايش مع واقعهم القاسي. في هذه الخيام، حيث لا شيء مؤكد، تصبح السخرية السوداء لغة النجاة الوحيدة. يعيش مئات الآلاف من النازحين في مختلف مناطق القطاع أوضاعًا إنسانية صعبة مع دخول فصل الشتاء، فقد تسببت الأمطار بغرق 10 آلاف خيمة، في حين حذرت بلدية غزة من انتشار الأوبئة بسبب اكتظاظ النازحين ونقص الموارد.
أمام خيمته المتواضعة في مواصي خان يونس، يجلس أبو محمد (65 عامًا) على الأرض وبجانبه أحفاده يلعبون في التراب، يتحدث بابتسامة مريرة "قاعدين في الخيمة بندقدق فيها كل يوم، بنحاول نزبط يوم عن يوم، معاناة ما يعلم فيها غير ربنا، ووقت ما الدنيا تمطر المية بتغرق الخيمة، والفراش والحمدلله يا بنتي".
تجلس الحاجة تهاني على ركبتيها أمام فرن الطينة وعلى كتفيها "شال" شتوي مهترئ، تخبز لعائلتها وأحفادها الخبز لتسد جوع أطفالها، تقول: "بعت اسوارتي الذهب عشان نشتري هالخيمة الي تسترنا ونقعد فيها، بعدين عملنا حمام والحمدلله المية متوفرة أحسن من غيرنا".
في إحدى المخيمات العشوائية في النصيرات، يقف أبو محمود (40 عامًا) أمام باب خيمته البسيطة، يتحدث بنبرة تسكنها الحسرة والألم "من أول ما نزحنا وحياتنا كلها مشاكل، وأهم وأصعب المشاكل مشكلة المسكن والغذاء، وبنمشي مسافات كبيرة عشان نعبي مية".
في مخيم مؤقت جنوب غزة، تجلس ابتهال العجرمي أم محمد، وهي أم لخمسة أطفال، نازحة من معسكر جباليا وتروي قصتها "عندما بدأ القصف، لم يكن أمامنا خيار سوى الفرار. تركنا كل شيء وراءنا. الآن نعيش في هذه المخيم، ولكن لا توجد مياه نظيفة ولا طعام كافٍ، أطفالي يسألونني متى سنعود إلى بيتنا، ولا أعرف ماذا أجيبهم".
المخيم يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. أكوام القمامة تحيط بالملاجئ المؤقتة، والرائحة الكريهة تخنق الأنفاس. الأطفال يلعبون وسط الركام، وكبار السن يجلسون على الأرض بلا مقاعد أو أسرة.
تقول ابتهال العجرمي إحدى النازحات من شمال غزة: "فقدنا كل شيء خلال الحرب، فقدت اثنين من أبنائي شهداء ومنزلنا دمر بالكامل، وبعد أن وضعت خيمتي فوق ركام منزلي المدمر تفاجأنا باجتياح جيش الاحتلال للمنطقة فما وجدت أمامي سوى النزوح من المنطقة ولا مكان لنا غير هذه الخيمة. لم نكن نتوقع أن يكون الوضع بهذا السوء".
هي ليست الوحيدة التي تعيش هذا الواقع؛ فجميع العائلات تواجه تحديات مشابهة لها.
في مخيم صغير أقيم في شرق غزة، تقول أم سامي، وهي أم لأربعة أطفال: "الخيمة لا تحمينا من الشمس الحارقة ولا من المطر. عندما تهب الرياح، نشعر وكأن الخيمة ستطير فوق رؤوسنا. طفلي الأصغر أصيب بالتهاب رئوي بسبب البرد الشديد".
عائلة أم سامي ليست الوحيدة. فالخيام المصنوعة من أقمشة خفيفة بالكاد تصمد أمام التقلبات الجوية، مما يترك الأسر بلا حماية.
في إحدى زوايا المخيم، يجلس يوسف، طفل يبلغ من العمر عشر سنوات، وهو يلهو بإطار سيارة قديم. عندما سألناه عن أمنيته، أجاب بصوت منخفض: "أريد العودة إلى بيتي، كنت أحب الذهاب إلى المدرسة واللعب مع أصدقائي، لكن الآن لا يوجد شيء".
أما النساء في غزة، فيواجهن تحديات إضافية. فإضافة إلى مسؤولياتهن اليومية في رعاية الأطفال والحفاظ على نظافة الخيمة، فإنهن يتحملن عبئًا إضافيًا في تأمين الحاجات الأساسية من غذاء ودواء وسط هذه الظروف القاسية جدًا.
- الامكانيات محدودة
الأستاذ أحمد أبو طه ناشط في العمل الخيري في مخيمات النزوح في مواصي خان يونس، يشرح عن الحالة القائمة، مشيرًا إلى أن أكبر العوائق التي تواجههم تتمثل في قلة المعونات وشح الإمكانيات.
ويقول: "الخيم قد اهترئت منذ أشهر، ومضى وقت طويل على إغلاق المعابر وعدم دخول خيم جديدة ولا أدوات صيانة، والمشكلة الآن الإمكانيات معدومة، الناس يفترشون الأرض ويلتحفون السماء".
وحول المعايير التي يتم اتباعها لتوزيع المساعدات من الخيم يقول: "حاليًا نبحث عن أضيق المعايير، والإمكانيات لا تغطي الكثير، لذا يتم تقييم وضع الخيمة والمكان، ويتم اختيار أشد الأسر حاجة وفاقة".
أحد العاملين في منظمة إغاثة محلية يقول: "الوضع كارثي. المساعدات لا تصل بشكل كافٍ، والنازحون يعانون من الجوع والمرض. المياه الملوثة زادت من انتشار الأمراض الجلدية وأمراض الجهاز الهضمي".
تقول سلمى اليازجي وهي متطوعة في إحدى الجمعيات الخيرية: "نحاول تقديم ما نستطيع، لكن الأعداد كبيرة جدًا والموارد محدودة. نحن بحاجة إلى تدخل دولي عاجل".
- أحلام محطمة
الحل الجذري لوقف هذه المعاناة الإنسانية هو إنهاء الحرب وتوفير الأمن والسلام لشعبنا في غزة، حتى يتمكنوا من العودة إلى حياتهم الطبيعية فوق ركام منازلهم المدمرة.
فخلف هذه الأقمشة الرقيقة، هناك أحلام محطمة وآمال تُدفن تحت الركام. ويبقى سؤال النازحين معلقًا: هل سنرى يومًا ينتهي فيه عصر الخيام في غزة؟.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها