رسم الرئيس محمود عباس ملامح برنامج عمل وطني للمرحلة القادمة، برزت مساراته الخمسة في كلمته التي افتتح بها اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أمس السبت.

بدا واضحا أن القيادة الفلسطينية ستسير على مبدأ التوازي لمواجهة جملة القضايا المحددة في هذا البرنامج، انطلاقا من واقع يحتم المجابهة على خمس جبهات في آن واحد، لا تحتاج أكثر من عقل استراتيجي وإرادة وطنية، وخطة مدروسة بعناية لكل مسار، تضمن تحقيق نتائج ملموسة يتطلع الشعب الفلسطيني إلى لمسها عينيا.

قد يكون الرئيس معنيا بالترتيب الذي قدمه في كلمته، من حيث ضرورة التركيز والاهتمام على تشابك واتصال متطلبات مواجهة المؤامرة الخطيرة على القضية الفلسطينية، له البعد الوطني بقيام دولته المستقلة ذات السيادة، ما يجعل كل مستمع لكلمة الإرادة الفلسطينية التي نطق بها قائد حركة التحرر الوطنية، بأن المصالحة والوحدة الوطنية هما قاعدة الارتكاز العريضة والعميقة التي لا بد منها للانطلاق بقوة وصبر وحكمة وعمل دؤوب، وبإستراتيجية مقاومة شعبية سلمية لمواجهة الاحتلال الاستيطاني الاستعماري، ومشاريعه العملية على الأرض وإسقاط قوانينه العنصرية، وأن الوحدة الوطنية ستكون مكسر صفقة القرن، ومنع تهويد القدس والمقدسات وتحديدا المسجد الأقصى، وتأكيد مسؤولية منظمة التحرير الفلسطينية عن الشعب الفلسطيني في الوطن واللاجئين في دول الجوار.

لا تحتاج المصالحة الفلسطينية إلا إخلاصا في النوايا ووفاء للتعهدات والاتفاقات، والتخلي عن منطق اختلاق الذرائع واصطناع المصطلحات، والحديث بوضوح للشعب الفلسطيني، ليكون هو الحكم وصاحب الكلمة الفصل، لكن الأمر في هذه اللحظة التاريخية، لا يخضع إلى المنافسات السياسية ولا للمناكفات ولا للمزايدات، ولا للصراعات التي يلجأ إلى إشعال فتائلها تيار في حماس مستفيد من مكاسب الانقلاب الذي مكنهم من السيطرة على قطاع غزة بالقوة المسلحة، والمضي بمشروع بات خطرا على القضية الفلسطينية موازيا لمشاريع نظام الاحتلال والاستيطان الاستعماري العنصري في إسرائيل، لذا قال الرئيس: "إن الوفد الفلسطيني يحمل موقفا فلسطينيا واضحا بخصوص المصالحة، ولا يحمل ردا على أحد، لأنه عندما نتحدث في هذا الموضوع، فإننا نتحدث عن الموقف الفلسطيني الذي اتخذناه في تشرين الأول/اكتوبر2017، ونحن ثابتون عليه".

وللتذكير فإن البند الأول في الاتفاق الموقع بين فتح وحماس في القاهرة في 11 تشرين الأول من العام الماضي لتنفيذ اتفاق القاهرة الموقع في العام 2011 قد نص على التالي : "الانتهاء من إجراءات تمكين حكومة الوفاق الوطني من ممارسة مهامها بشكل كامل والقيام بمسؤولياتها في إدارة القطاع كما الضفة الغربية وفق النظام والقانون بحد أقصى 1/12/2017".

أما البند الثالث فقد نص على: "الانتهاء من إجراءات استلام حكومة "الوفاق الوطني" لمعابر قطاع غزة كافة، بما في ذلك تمكين أطقم السلطة الفلسطينية من إدارة تلك المعابر بشكل كامل، وذلك بحد أقصى يوم 1 /11/ 2017. ونعتقد بوضوح النصين بما لا يدع مجالا للتفسيرات والتأويلات من أي جهة كانت.

يمكن لكل متابع ملاحظة مصطلح تمكين حكومة الوفاق الوطني الذي خرجت قيادات من حماس لإعلان رفضهم لهذا التمكين وإعطائه تأويلات وتفسيرات لا علاقة لها بالمنطق الكلامي أو السياسي، وكان، وعلى رأسهم د. محمود الزهار عضو المكتب السياسي لحماس – الآمر الناهي في قطاع غزة، واللافت تزامن هذا الرفض بعد فترة وجيزة من تفجير موكب رئيس الوراء ورئيس جهاز المخابرات العامة.

الموقف الفلسطيني الذي تحدث عنه الرئيس، هو الموقف الوطني، أي "تمكين الحكومة بشكل كامل" وهذا نص وقع عليه صالح العاروري عضو المكتب السياسي لحماس أيضا... والتمكين هنا يعني توحيد سلطة الشعب الفلسطيني السياسية القانونية والتنفيذية، وتعزيز مقومات الصمود، والمواجهة لإسقاط مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، وتقزيمها عبر حلول وإنشاء كيانات "مسخ".

المسار الثاني الذي طرحه الرئيس فقد كان القدس والمقدسات وقد قال في هذا: "إن الإجراءات الإسرائيلية ضد المسجد الأقصى المبارك لم تعد تحتمل، ولا بد من وقفة جادة لوقفها".

يعتقد الرئيس ومعه كل الشعب الفلسطيني بأن حماية القدس والمقدسات ومنع تهويدهما مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى، لكن ونظرا لاختلال موازين القوى بيننا وبين نظام (الدولة العنصرية) إسرائيل فإن سبعين دولة في منظمة التعاون الإسلامي كثير منها تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وأخرى يمكنها التأثير بشكل مباشر بات لازما تجاوز لغة البيانات والانتقال إلى الحضور الفعلي والعملي في معركة حماية المقدسات، وحماية قبلة المسلمين الأولى، فالأمر مرتبط بعقيدة ألف مليون مسلم وأكثر في هذا العالم، وبمصير ومستقبل ثقافة الأمة الإسلامية أيضا، فالأمة التي لا تحمي مقدساتها سيكون مصيرها ومستقبلها مجهولا.

أما صفقة القرن التي تحدث عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقد أعلن رئيس الشعب الفلسطيني تحولها إلى عظام مقبورة والى الأبد في مجاهل التاريخ المظلم، وتم إدخالها في عالم النسيان التام، وأنها لو ذكرت لن تكون أكثر من صورة مؤلمة تعكس نمط تفكير وعقلية السائرين في الاتجاه المضاد للإنسانية وشرائعها والحرية والسلام .وعليه يمكننا تفسير قول الرئيس : "هذه الصفقة رفضناها ونرفضها وسنرفضها وانتهى أمرها بالنسبة لنا، ولم يعد لدينا أي اهتمام بها".

ويؤكد الرئيس مضي قيادة الشعب الفلسطيني على نهج المقاومة الشعبية السلمية في الميدان، والمقاومة الدبلوماسية القانونية السياسية في المحافل الدولية، في خطين متلازمين يدعم احدهما الآخر بلا حدود، والأخذ في الاعتبار كل المستجدات التي تدعونا إلى تطوير منهج وإستراتيجية كفاحنا الوطني وتوسيع دوائره أينما وجد الشعب الفلسطيني، خاصة بعد قرار الكنيست باعتماد قانون عنصري مخالف لمسار الفكر الإنساني، وهذا ما أعرب عنه الرئيس أبو مازن بقوله: "إن القرار الإسرائيلي الخاص بالقومية، وإلغاء حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإلغاء كل ما هو غير يهودي في الأراضي الفلسطينية، أمر لن نقبل به سنتخذ الإجراءات المناسبة لمواجهته من هنا إلى الأمم المتحدة".

أعاد الرئيس تأكيد تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، وتحملها المسؤوليات عن كل فلسطيني أينما وجد في هذا العالم، وخاصة في المخيمات الفلسطينية التي هي بالنسبة لنا محطة انتظار نحو تحقيق حق العودة، وحق اللاجئين بالعيش الكريم في البلدان التي تستضيفهم، وفتح السبل وإزالة المعيقات من اجل منع تمرير مؤامرة التهجير مرة أخرى إلى بلاد بعيدة، فالفلسطيني الذي عاش في بلدان عربية يتنسم هواء فلسطين، سيبقى وفيا لهذه البلاد، وستبقى المنظمة على عهدها في تمثيل إرادته في الحياة، وتمثيل أهدافه الوطنية، ومن هنا قال الرئيس: "سنشارك في عملية إعادة بناء مخيم اليرموك وتقديم المساعدة لشعبنا وأهلنا هناك لكي يعودوا إلى بيوتهم في المخيم".

هذا هو الموقف الفلسطيني الراهن، وفيه ملامح إستراتيجية العمل للمرحلة القادمة ونقطة آخر السطر.